منذر عياشي.. صيرورة اللساني وغربته

05 مايو 2015
(تصوير: عالم نوح)
+ الخط -

"ما من إنسان إلا وهو باللغة كائن. نحن لا نستطيع إلا باللغة أن نقول ما نقول. لكن ثمة فرق بين من يتخذ اللغة أداة لقول معارفه، ومن يتخذ اللغة موضوع معرفته". هكذا يبدأ منذر عياشي (1945) حديثه مع "العربي الجديد"، وهو ممّن اتخذوا من اللغة موضوع معرفة ومشروع حياة.

ترسم سيرة عياشي صورة لانتقالات مثقف سوري، لم يسعه واقع بلاده كما فرضته أنظمة الحكم، وهو يعيش اليوم مأساة سورية من موقعه كمدرّس في جامعة البحرين. يرسم نقطة بداية هذا المشوار من هزيمة 1967 حين تحمّس لدخول المؤسسة العسكرية السورية، إلا أن مطلبه رُفض، فقد اعتبرت أسرته "إقطاعية في عرف اليساريين".

يقول "أردت أن أثأر للوطن المهزوم فهُزمت مرة أخرى، وقرّرت أن أنتمي للجامعة". غير أنه لم يحضر سوى حصة واحدة قبل أن يُطرد بسبب جدال مع مدرّس بعثي. هنا، قرّر والده إرساله للدراسة في فرنسا. يقول "لا مؤسسة العسكرية وسعتني، ولا المؤسسة العلمية الوطنية وسعتني".

من نهاية 1976 إلى سنة 1986 غطس الطالب السوري في التحصيل العلمي في علوم اللسانيات التي كانت تشهد وقتها تطوّرات حاسمة. درس أولاً في جامعة "إكس إن بروفانس" حيث حصل على دكتوراه أولى في دراسة الأسلوب، وعاصر عدداً من رموز هذه العلوم مثل بارت وتودوروف، كما شهد ربيع الطلاب، ثم انتقل إلى مصر حيث أعد دكتوراه ثانية عن "النظرية التوليدية ونحو الجملة العربية".

في نهاية مرحلة التحصيل، دخل عياشي في مسارات التأليف والترجمة. قرّر بداية ألّا ينشر أطروحاته الجامعية، حيث اعتبرها "ذات وظائف أكاديمية وهي ترسم ماضي نظريات العلوم اللسانية لا مستقبلها، فمثلاً ما جاء به تشومسكي تخلّى عنه بنفسه وقام بتطويره".

يتذكّر أن أول مشاريع التأليف كتابه "أنا والمعرفة"، وهو كتاب لم ينشر، إلى اليوم، إذ يعتبره قيد الإنجاز. يجيب عياشي في عمله هذا عن سؤال "ماذا سبّبت لي المعرفة؟" ويوازي مشروع هذا الكتاب عمله "أنا والجامعة" يتحدث فيه لما تعرّض له من مشكلات في العالم الأكاديمي، مشكلات يقول عنها بأنها "من صنفين: مشكلات عقبات ومشكلات قضايا".

في سنوات التأليف هذه، التي بدأت في نهاية عقد الثمانينيات، يقول عياشي "قسّمت وقتي بين كتابة وقراءة وترجمة. وكان حظ الترجمة أكبر من حظ الكتابة وحظ القراءة أكبر من حظ الكتابة والترجمة". وبخصوص ما أنجزه، إلى اليوم، يقول: "لم أكتف بميدان اللسانيات، وإنما خرجت من إطاره مستعيناً بعدّة اللسانيات، أي خرجت من التخصّص، ولكنني اعتمدت عليه في كتاباتي وترجماتي".

في عام 1989، أسّس اللسانيّ السوري مع نادر السباعي "مركز الإنماء الحضاري". يقول "أردنا مشروعاً يتحرّر فيه أصحاب المعرفة من تجّار المعرفة". ويضيف "اشترطنا على أنفسنا أن ننشر، بقدر متساو، ما نؤمن به وما لا نؤمن به" ثم يلاحظ "العجيب أننا نشرنا ما لا نؤمن به أكثر مما نؤمن به. لقد وجدت شخصياً أن ما لا نؤمن به له سحر وإغراء واغتناء، أي فيه من الهدايا المعرفية ما لا نستطيع أن نرفضه أو نتجاهله".

يبدو مشروع "مركز الإنماء الحضاري" متوقفاً اليوم، إلا أن عياشي يوضّح بأنه "لم يتوقف وإنما هو معطل لسببين؛ الأول هو وفاة رفيق دربي نادر السباعي، ثم اندلاع الثورة السورية". يُلاحظ متابعُ منتج منذر عياشي بأنه ينشر مؤلفاته في عدة دور نشر، يفسّر ذلك: "لم أحب أن أظهر كمن أنشأ دار نشر لينشر مؤلفاته".

اشتغاله بمجال اللغويات واللسانيات جعله يتقاطع مع ميادين عدة مثل الأدب والفكر الحضاري. لكن كيف هو حال التفكير اللغوي اليوم؟ يجد عياشي بأنه "قد خطا خطوة لا بأس بها" ثم ينظر إلى المسألة من موقع أكاديمي، فيقول "إن الدرس اللغوي ما زال يعيش غربة جامعية. فهو درس محصور بين علوم أخرى، وما زال يتسيّده درس النحو التقليدي والدرس البلاغي التقليدي والدرس النقدي التابع لهما. ما زلنا ندرس اللسانيات بوصفها معلومات ولا نراها ببعدها الكلي. ينقصنا المنظور الشمولي والبنية التي تستوعبه".

ينفتح اللغويون في العالم، وبصفة متدرّجة في العالم العربي، على الحديث في الشأن العام، حتى أن أسماء نعوم تشومسكي وأمبرتو إيكو وتزيفيتان تودوروف لم يعد تصنيفهم مقتصراً على كونهم لغويين أو لسانيين. يجد عياشي مداخلة اللسانيين خارج حدود المعرفة اللسانية أمراً طبيعياً، فـ "اللساني هو الأكثر تماشياً وتفهماً لما به الإنسان يصير، أي لغته وخطابه".

يأخذ مثال تشومسكي "الذي فضح الإمبريالية الأميركية من خلال خطابها" كي يبيّن القدرة التوضيحية التي يملكها اللسانيون. ومن هذه الزاوية، يرى أنه "لا يوجد أخطر على السياسي من تحليل خطابه. إن السياسي يقول خطابه ثم يخاف منه لو وُضع للتحليل. السياسي يريد أن يقدَّس خطابه، واللساني يأتي من نقطة الضعف هذه فيتناول خطابه بالتحليل".

لكن، هل يستفيد العرب من التطوّرات المسجلة في علوم اللغة؟ يرى عياشي أن "الأدب العربي مثلاً قد تسرّبت له نتائج العلوم اللسانية عن طريق النقد، لكن على مستوى حضاري شامل ما زال هضمها معطلاً".

يشير "نحن لا نستطيع الاستفادة من كل ما يصل إليه الغرب". هنا، يعطي مثالاً على ذلك بطه حسين الذي درس في باريس واستفاد من المناهج التاريخية والاجتماعية ونقلها لدراسة الأدب العربي. يقول "في ذلك الوقت كان دي سوسير يملأ الحياة المعرفية صخباً، ولكن طه حسين لم يأخذ منه شيئاً، لقد جاء من مصر بعقل ينتظر معرفة معيّنة على مقاس ما تحتاجه بيئته، فاستفاد مما انتظره فحسب وأخشى أن نكون كذلك".

ولعل الترجمة أكثر الميادين التي اشتغل عليها عياشي، وقد نقل أسماء معرفية أساسية، من اللغة الفرنسية، مثل رولان بارت، بيير جيرو، تودوروف، بول ريكور في الجانب المعرفي، وفي الجانب الأدبي نقل دينو بوزاتي وألبيرتو مانغويل. لا نجد رابطاً واضحاً بين هؤلاء الكتاب، ولا يخفي عياشي ذلك، إذ يقول "لا توجد لدي خطة على مستوى الخيارات والعناوين، ففي مجتمع تغيب عنه خطط التنمية البشرية والمعرفية، لا بد أن تكون الترجمة هي الأخرى بلا خطة".

ولكنه من جهة ثانية، يلتزم في ترجماته بمبدأين، يقول عن الأول "إن ما أتمنى أن أعرفه أتمنى لمجتمعي أن يعرفه"، أما المبدأ الثاني فيتعلق بأسلوب الترجمة حيث يقول "في ترجماتي، أردت التحوّل من ناقل إلى كاتب نص على نص، وهذا قد شرحته في مقدمة ترجمتي لكتاب لذة النص لرولان بارت". يشير عياشي بأنه استمد هذا التوجه من مفسّري القرآن وطبقه على الترجمة. يقول "أحيي ما أقامه المفسّرون، كانوا يكتبون نصاً على نصّ، من دون أن ينظروا لذلك".

"القرآن من بناء النص إلى بناء العالم" الجزء الثاني من مشروع بدأه منذر عياشي بكتاب "القرآن والتلقي"، يدرس فيه "الإعجاز القرآني"، فلا يجده مفهوماً قرآنياً، بل وضعه المعتزلة لفرض هيمنة فكرية على الأمة، مستغلين كون القرآن لا يأتي أحد بمثله. عياشي لا يرجع ذلك إلى عجاز بلاغي وإنما، من منظور لساني، لتعدّد البنى داخل النص القرآني. الإعجاز بالنسبة له فرض لعجز إنساني، وأحد أسباب تعطيل التفكير الإبداعي.

المساهمون