-1-
هرول الفتى ابن الثلاث سنوات، في الأروقة الملتوية للقصر، متعثراً بأعباء تركها افتقاد الأب في عمر مبكّر، في مجتمع يتكئ على النسب الأبوي، والإفاضة بالامتيازية المؤسسة على الذكورية.
لم يحرمه أباه عدوٌ متربص بالبلاد، ولا مندسٌ خبيث في عباءة صديق، بل ابن عمه ناصر الدولة الحسن، الأخ الأكبر لسيف الدولة، طالما شرب الرجلان معاً، عصائر التوت والرمّان المبرّدة بثلوج ماردين، وتحدّثا عن أشواقهما الصاعدة كبخار من أعطاف عباءتيهما الموشحتين بخيوط الذهب، والمطرّزة أطرافهما بتلوينات بتلات الخزامى والزعفران الطافح بهما سهل "نينوى". وتذاكرا بمقاطع محفوظة من نهج البلاغة وأشعار دعبل الخزاعي، لكن ذلك لم يحل دون القتل غيلة، لإقصاء عن درب المنافسة الاحتمالية، إلى حيازة إمارة الموصل.
حمل الفتى كذلك أعباء الانتماء لسلالة محارِبة هوت السلطة قبل أن تتهاوى معها، وهو غير الهوى الذي يأخذ البحارة إلى أعماق المياه، لاصطياد اللؤلؤ أو الموت في قاع المياه البتول.
وكان فارساً محارباً، بينما نظر إليه المحاربون كشاعر، وكان شاعراً بينما تملّقه الشعراء كمحارب من سلالة حاكمة، متوسلين عطاءه السخي وموائده العامرة. ما الذي أتى بيتيم وشاعر إلى السلطة، وهي لا تحتمل الأيتام والشعراء، بينما تفتح أبوابها لمجهولي الأب والمشعوذين والمهرجين.
تحقّقت الدولة الحمدانية، كنتاج للتفسخ التدريجي للخلافة العباسية ودولتها، وثمرة اقتطاع الجماعات العسكرية المقاتلة لأقاليمها وحكمهم إياها، بكونهم الفئة التي حازت على القوّة فسعت إلى الملك. بذل بني حمدان الكثير في سبيل الملك، فأقدموا على الحرب والقتال تحت راية الخلافة العباسية، ردعاً للخوارج تارة، وإخماداً للانتفاضات العامة تارة أخرى، وإخضاع القبائل المتمردة على دفع الخراج، والتصدّي للغزوات الرومية، قبل أن يشكلوا دولتهم.
حالهم حال الغزنويين في ما وراء خراسان، والسامانيين في خراسان والأخشيديين في مصر وبلاد الشام الجنوبية والفاطميين في شمال أفريقية. بينما مركز السلطة في بغداد وقع تحت هيمنة البويهيين الفرس. استقلّ الحمدانيون بأجزاء من الخلافة شملت الخطّ الممتد من الموصل شرقاً، مروراً بديار بكر وديار ربيعة والجزيرة ليصل إلى حلب غرباً، ومن كيليكية والهضبة الأرمنية شمالاً إلى تخوم حمص جنوباً. إن أضعف شرعية تحوزها سلطة، عندما تربط وجودها بمهام حربية، كالدفاع عن الثغور، ومواجهة غزوات الغرباء، والتصدي للطامعين، والفتوحات الحربية المستمرة. كأنها بذلك تريد حجب سبب بقائها، المؤسّس على النهب، مما يدخلها في سباق حربي بلا نهاية. وهو عينه سبب فنائها، حين تتوفّر عند الجماعات الحربية الأخرى أسباب القوّة لردعها، ليكون ذلك سبباً لانكفائها، وبداية لتآكلها الذاتي بعد أن تأكل شعوبها وتفنيهم.
تعثّر هذا النمط من السلطات في حلّ مشكلة الديمومة، فكيف تتأبّد السلطة وتلج فضاء الخلود، وهي مؤسّسة على عائلات تأكل بعضها، وتستعين على بعضها بمرتزقة، يتكفّلون بمتابعة الإفناء ليحلوا محلّ سادتهم. وحين يحلّ غسق انسداد الأفق، يطالبون أهل الدين الدعاء إلى الله ليبارك سلطتهم ويحفظها من النوائب والمتربصين. سلطات تمشي على مياه التاريخ، فلا أثر باق منها، وكأن التاريخ أنزل بها عقابه، بامتصاصها وتبديدها. فلا يكاد يعثر على أثرٍ باقٍ من تلك السلالات المحاربة الأخشيديين والبويهيين والسلاجقة والحمدانيين والمرداسيين والعقيليين. كأنهم قد بدّدوا بهوّة لا قرار لها. وعجزت عن نصرتهم أشجار النسب، التي طالما استدرجوا المؤرّخين ليتلاعبوا بجذوعها وأغصانها. ليرموا في النهاية كما قراصنة البحار حيث لا راية ولا وطن.
-2-
أسر الروم أبا فراس مرتين، في أولاهما 959 م قادوه إلى قلعة على نهر الفرات عرفت باسم "خرشنة" بالقرب من مدينة ملطية، وقادوه في الأسر الثاني 962 م إلى "القسطنطينية" وبقي في الأسر أربع سنوات، وعامله الروم معاملة تليق بأمير. وعاد إلى بلاده عام 966 م بعدما قدّم سيف الدولة فدية لتحريره.
أن يكون سجيناً ولا أحد يكترث لحاله. أترد هذه لقسوة القلب والمزاجية الغامقة، التي انغمس فيها المستبدّ الشرقي، حيث اعتاد تهشيم حيوات العامة بين أصابعه كعود يابس؟
في الوقت الذي كان يحلم فيه الفارس الأسير بطعام ساخن طيب المذاق، وثياب نظيفة تعطرها الأم - الأرملة بخلاصات أوراق الغار والخزامى، واللمسة حنون، تمرّ آخر الليل على جبهته الناضحة بعرق التعب، والرغبة باسترداد ما لا يمكن استرداده: الأب المقتول غيلة، والتقدّم خبباً على ظهر الحصان بين سنابل القمح في سهول "منبج" لأخذ الهواء العذب من فم النسيم.
كان "سيف الدولة" مشغولاً بتعيين أحد غلمانه حاكماً لمدينة طرسوس، وزاد انشغاله بعد قيام غلمان على قتله، بعدما أرهقهم بطلباته المذلة.
ربطت الأرستقراطية العسكرية، التعيين الواقعي للاستبداد الشرقي، عائلاتها بالدولة، وأطلقت من دون وجل على أبنائها الأسماء الثقيلة؛ صدر الدولة وعضد الدولة وعماد الدولة. كأنما تريد بذلك إلغاء الاستقلال النسبي بين الجماعة الحاكمة والدولة. كما ربط ظهيرها الإيديولوجي أسماءه مع الدين؛ ركن الدين وعز الدين ومحيي الدين وشمس الدين. وكأن هنا ارتباطا بين الإفراط في ذكر الدولة والدين وغياب قيمتهما المعيارية ووظائفهما ومعناهما.
يعجز المرء أحياناً عن تحرّي موقع للعلوم والثقافة مع السلطة الاستبدادية الشرقية، إلا باعتبارهما إطاراً تزيينياً لها. فما الذي أفاد السلطة وجود النحوي ابن خالويه، والمؤرخ أبي الفرج الأصفهاني، والفيلسوف الفارابي، وغيرهم في بلاط الدولة الحمدانية؟
توفي سيف الدولة 967 م ،أي بعد عام من تحرر أبو فراس من الأسر، وخلفه ابنه أبو المعالي سعد الدولة، وهو ابن أخت أبي فراس، عاونه على أمر الحكم "قرغويه" مولى أبيه. عزم أبو فراس بعدها التغلّب على حمص واقتطاعها لنفسه، ووصل خبره إلى أبي المعالي، فوجه إليه جيشاً بقيادة "قرغويه"، وقتل في ضرام المعركة في الرابع من نيسان 968 م، وهو في السادس والثلاثين من عمره. ورط النسب الحربي أبا فراس بالسلطة وأحابيلها، وهو العاجز عن مغادرة طفولته وفروسيته، وانفعاله المبتهج بالطبيعة والأصدقاء، وحنانه المتجدّد للأم وللأخوة والأخوات. لكنه مضى وحيداً إلى قدر، حاكته السلطة ودولتها بخبث أسود. وهو الذي أبى "دفع الردى بمذلة" وسكنت صدره المتعب مناجاة الحمام من كوّة السجن العميق.
ونأمل، بعد مرور الزمن الطويل، الوصول إلى أنين الشعوب وكشف مكامن أوجاعها، في الوقت الذي يرتفع صليل السيوف، وعربدة من ينتزعون نصراً في الليل ليفقدوه في الصباح.
هرول الفتى ابن الثلاث سنوات، في الأروقة الملتوية للقصر، متعثراً بأعباء تركها افتقاد الأب في عمر مبكّر، في مجتمع يتكئ على النسب الأبوي، والإفاضة بالامتيازية المؤسسة على الذكورية.
لم يحرمه أباه عدوٌ متربص بالبلاد، ولا مندسٌ خبيث في عباءة صديق، بل ابن عمه ناصر الدولة الحسن، الأخ الأكبر لسيف الدولة، طالما شرب الرجلان معاً، عصائر التوت والرمّان المبرّدة بثلوج ماردين، وتحدّثا عن أشواقهما الصاعدة كبخار من أعطاف عباءتيهما الموشحتين بخيوط الذهب، والمطرّزة أطرافهما بتلوينات بتلات الخزامى والزعفران الطافح بهما سهل "نينوى". وتذاكرا بمقاطع محفوظة من نهج البلاغة وأشعار دعبل الخزاعي، لكن ذلك لم يحل دون القتل غيلة، لإقصاء عن درب المنافسة الاحتمالية، إلى حيازة إمارة الموصل.
حمل الفتى كذلك أعباء الانتماء لسلالة محارِبة هوت السلطة قبل أن تتهاوى معها، وهو غير الهوى الذي يأخذ البحارة إلى أعماق المياه، لاصطياد اللؤلؤ أو الموت في قاع المياه البتول.
وكان فارساً محارباً، بينما نظر إليه المحاربون كشاعر، وكان شاعراً بينما تملّقه الشعراء كمحارب من سلالة حاكمة، متوسلين عطاءه السخي وموائده العامرة. ما الذي أتى بيتيم وشاعر إلى السلطة، وهي لا تحتمل الأيتام والشعراء، بينما تفتح أبوابها لمجهولي الأب والمشعوذين والمهرجين.
تحقّقت الدولة الحمدانية، كنتاج للتفسخ التدريجي للخلافة العباسية ودولتها، وثمرة اقتطاع الجماعات العسكرية المقاتلة لأقاليمها وحكمهم إياها، بكونهم الفئة التي حازت على القوّة فسعت إلى الملك. بذل بني حمدان الكثير في سبيل الملك، فأقدموا على الحرب والقتال تحت راية الخلافة العباسية، ردعاً للخوارج تارة، وإخماداً للانتفاضات العامة تارة أخرى، وإخضاع القبائل المتمردة على دفع الخراج، والتصدّي للغزوات الرومية، قبل أن يشكلوا دولتهم.
حالهم حال الغزنويين في ما وراء خراسان، والسامانيين في خراسان والأخشيديين في مصر وبلاد الشام الجنوبية والفاطميين في شمال أفريقية. بينما مركز السلطة في بغداد وقع تحت هيمنة البويهيين الفرس. استقلّ الحمدانيون بأجزاء من الخلافة شملت الخطّ الممتد من الموصل شرقاً، مروراً بديار بكر وديار ربيعة والجزيرة ليصل إلى حلب غرباً، ومن كيليكية والهضبة الأرمنية شمالاً إلى تخوم حمص جنوباً. إن أضعف شرعية تحوزها سلطة، عندما تربط وجودها بمهام حربية، كالدفاع عن الثغور، ومواجهة غزوات الغرباء، والتصدي للطامعين، والفتوحات الحربية المستمرة. كأنها بذلك تريد حجب سبب بقائها، المؤسّس على النهب، مما يدخلها في سباق حربي بلا نهاية. وهو عينه سبب فنائها، حين تتوفّر عند الجماعات الحربية الأخرى أسباب القوّة لردعها، ليكون ذلك سبباً لانكفائها، وبداية لتآكلها الذاتي بعد أن تأكل شعوبها وتفنيهم.
تعثّر هذا النمط من السلطات في حلّ مشكلة الديمومة، فكيف تتأبّد السلطة وتلج فضاء الخلود، وهي مؤسّسة على عائلات تأكل بعضها، وتستعين على بعضها بمرتزقة، يتكفّلون بمتابعة الإفناء ليحلوا محلّ سادتهم. وحين يحلّ غسق انسداد الأفق، يطالبون أهل الدين الدعاء إلى الله ليبارك سلطتهم ويحفظها من النوائب والمتربصين. سلطات تمشي على مياه التاريخ، فلا أثر باق منها، وكأن التاريخ أنزل بها عقابه، بامتصاصها وتبديدها. فلا يكاد يعثر على أثرٍ باقٍ من تلك السلالات المحاربة الأخشيديين والبويهيين والسلاجقة والحمدانيين والمرداسيين والعقيليين. كأنهم قد بدّدوا بهوّة لا قرار لها. وعجزت عن نصرتهم أشجار النسب، التي طالما استدرجوا المؤرّخين ليتلاعبوا بجذوعها وأغصانها. ليرموا في النهاية كما قراصنة البحار حيث لا راية ولا وطن.
-2-
أسر الروم أبا فراس مرتين، في أولاهما 959 م قادوه إلى قلعة على نهر الفرات عرفت باسم "خرشنة" بالقرب من مدينة ملطية، وقادوه في الأسر الثاني 962 م إلى "القسطنطينية" وبقي في الأسر أربع سنوات، وعامله الروم معاملة تليق بأمير. وعاد إلى بلاده عام 966 م بعدما قدّم سيف الدولة فدية لتحريره.
أن يكون سجيناً ولا أحد يكترث لحاله. أترد هذه لقسوة القلب والمزاجية الغامقة، التي انغمس فيها المستبدّ الشرقي، حيث اعتاد تهشيم حيوات العامة بين أصابعه كعود يابس؟
في الوقت الذي كان يحلم فيه الفارس الأسير بطعام ساخن طيب المذاق، وثياب نظيفة تعطرها الأم - الأرملة بخلاصات أوراق الغار والخزامى، واللمسة حنون، تمرّ آخر الليل على جبهته الناضحة بعرق التعب، والرغبة باسترداد ما لا يمكن استرداده: الأب المقتول غيلة، والتقدّم خبباً على ظهر الحصان بين سنابل القمح في سهول "منبج" لأخذ الهواء العذب من فم النسيم.
كان "سيف الدولة" مشغولاً بتعيين أحد غلمانه حاكماً لمدينة طرسوس، وزاد انشغاله بعد قيام غلمان على قتله، بعدما أرهقهم بطلباته المذلة.
ربطت الأرستقراطية العسكرية، التعيين الواقعي للاستبداد الشرقي، عائلاتها بالدولة، وأطلقت من دون وجل على أبنائها الأسماء الثقيلة؛ صدر الدولة وعضد الدولة وعماد الدولة. كأنما تريد بذلك إلغاء الاستقلال النسبي بين الجماعة الحاكمة والدولة. كما ربط ظهيرها الإيديولوجي أسماءه مع الدين؛ ركن الدين وعز الدين ومحيي الدين وشمس الدين. وكأن هنا ارتباطا بين الإفراط في ذكر الدولة والدين وغياب قيمتهما المعيارية ووظائفهما ومعناهما.
يعجز المرء أحياناً عن تحرّي موقع للعلوم والثقافة مع السلطة الاستبدادية الشرقية، إلا باعتبارهما إطاراً تزيينياً لها. فما الذي أفاد السلطة وجود النحوي ابن خالويه، والمؤرخ أبي الفرج الأصفهاني، والفيلسوف الفارابي، وغيرهم في بلاط الدولة الحمدانية؟
توفي سيف الدولة 967 م ،أي بعد عام من تحرر أبو فراس من الأسر، وخلفه ابنه أبو المعالي سعد الدولة، وهو ابن أخت أبي فراس، عاونه على أمر الحكم "قرغويه" مولى أبيه. عزم أبو فراس بعدها التغلّب على حمص واقتطاعها لنفسه، ووصل خبره إلى أبي المعالي، فوجه إليه جيشاً بقيادة "قرغويه"، وقتل في ضرام المعركة في الرابع من نيسان 968 م، وهو في السادس والثلاثين من عمره. ورط النسب الحربي أبا فراس بالسلطة وأحابيلها، وهو العاجز عن مغادرة طفولته وفروسيته، وانفعاله المبتهج بالطبيعة والأصدقاء، وحنانه المتجدّد للأم وللأخوة والأخوات. لكنه مضى وحيداً إلى قدر، حاكته السلطة ودولتها بخبث أسود. وهو الذي أبى "دفع الردى بمذلة" وسكنت صدره المتعب مناجاة الحمام من كوّة السجن العميق.
ونأمل، بعد مرور الزمن الطويل، الوصول إلى أنين الشعوب وكشف مكامن أوجاعها، في الوقت الذي يرتفع صليل السيوف، وعربدة من ينتزعون نصراً في الليل ليفقدوه في الصباح.