يصرخ الروائي السوري ممدوح عزام: "كيف سأكتب روايتي حول ما يجري وقد فاضت الأرض السورية بالحكايات؟ الحكايات هنا يومية، تداهم الكاتب وتسحب منه القدرة على المتابعة، ولكن لا مفر من أن يسمع ويرى. فالعالم هنا يعاد تشكيله ورسمه وابتكاره وتدميره وإحراقه أمام عيني الروائي. الأرض تتغير، والقوى تبدل مواقعها، والناس الذين نعرفهم ما عادوا هم الناس الذين نعرفهم. تهدمت الصداقات وعلاقات القرابة والمواقف السياسية.
نحن الآن أمام مشهد قيامي بامتياز، ولن تكون سوريا في الغد ما كانت عليه بالأمس، ولا على ما هي عليه اليوم، فأين يجد الروائي مشروعه إذن؟ هذا هو السؤال الذي أحاول الإجابة عنه فنياً".
قارئ روايات عزام يعرف أن فكرة الثورة، أو أحلام التغيير، حاضرة بقوة في كل أعماله. فنحن نراها في الثورة السورية الكبرى داخل "قصر المطر" (1998) روايته الأبرز، ونراها في انكسار أحلام كريم الزهر وعموم أهالي "السماقيات" و"السويداء" داخل "أرض الكلام" (2005)، وفي تمرد "عصابة الكف الأسود" داخل "نساء الخيال" (2011) آخر رواياته.
يقول الكاتب المولود في الجنوب السوري: "إذا كان فكر الثورة حاضراً في أعمالي، فإن الحقيقة الأكيدة هي أنني لم أتنبأ بها، لم أتوقع حدوث ما حدث. ولهذا فإنه لما يُشرّف المرء، وهو الروائي هنا، أن يكون قد استطاع تسجيل تلك اللحظات المضيئة في الجسد العربي، في حين كانت قيم اليأس واللامبالاة تسبغ حضورها على الحياة اليومية العربية".
غير أنه، اليوم وعلى ضوء ما جرى، يرى أن لديه في أعماله إشارات قوية إلى أمرين في المشهد العربي الذي سبق قيام الثورات: "الأول هو الصلابة الأخلاقية للشرائح الشعبية، والثاني هو تهتك السياسي العربي (اليساري خاصة). وقد كانت فرضيات مجردة، لا تمتلك قوة النبوءة، فإذا هي اليوم حقائق على الأرض".
اتخذتْ حقبتا الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي مركزية في مدونته الروائية، فأعماله تدور فيها، أو تبدأ منها، أو تنتهي إليها. يقول عزام: "لقد كان لدي ما يشبه اليقين بأننا محكومون بالماضي (أنت ترى الآن كيف يقتلنا!)، لهذا حاولت أن أبحث هناك عن أساس ما يحدث هنا، لم أعثر على أجوبة بالطبع".
ويتساءل الكاتب: "ولكن هل غاب كنج الحمدان عن المشهد العربي؟". "كنج" هذا هو بطل "قصر المطر" الذي جعل منه نموذجاً للمستبد الشرقي، وتمثيلاً إنسانياً للطغيان: "لقد كان لدي إحساس عميق بأن شخصاً مثله قد عشش عميقاً في حياتنا كلها، في البيت والمدرسة والشارع والحي والمجتمع، دع عنك القبيلة وأخواتها.
لا يرحل الطغيان برحيل الطاغية، بل يترك وراءه شريطا من الدماء، ربما يقبع داخل النفوس. في كل الأحوال فإن لدي الكثير من البيّنات التي تؤكد أننا بحاجة لمئات المؤلفات، ليس في الحقل الروائي وحده، لمعرفة التاريخ، تاريخنا، كي ننجو منه. يجب أن نتخلص من التاريخ، أو نتعلم منه، بكشفه لا بتغييبه أو بالتستر عليه".
عزام روائي مجترح للتقنيات السردية. في روايته "قصر المطر" جعل الجسد المتقمَّص من روحٍ سابقة يروي سيرة آل الفضل في صراعهم مع الاستبداد المحلي متمثّلاً بالسلطة الإقطاعية المحلية من جهة، والسلطة الاستعمارية من جهة أخرى. في "أرض الكلام" استحضر ثلاثة ساردين لعام (1959 ـ 1960)، عام الجوع والجفاف، العام الأسوأ في تاريخ سوريا، وذلك من خلال يوميات أستاذ القرية وقصص ابنه القصيرة وكاميرا الفتى المغرم بالتصوير.
في "نساء الخيال" استعان بالأرشيف.. كيف تصل إلى هذه التقنيات؟ نسأله، فيجيبنا: "أعتقد أن اللحظة الروائية هي لحظة السؤال الخالق: كيف أكتب الرواية، بل كيف أكتب هذه الرواية. ذلك أن السؤال عن ماذا أكتب متوافر بكثرة، أعني أن العالم مكتظ بالحكايات. لذلك فإن المهام الروائية تتعطل أو تتحفز عندما يتمكن الكاتب من اكتشاف كيفية الكتابة، إنه ينتقل من الكتابة إلى الرواية، وحين أعرف كيف سأكتب روايتي أدرك أن الحكاية، وهي خميرة البدء، بدأت تتحول إلى رواية، أي إلى عمل فني. لهذا أفكر كثيرا بالكيفية: لحظة البداية.
تحولات الفصول. الانتقالات الزمانية والمكانية. صلات الأحداث الواحدة بالأخرى. الخاتمة أيضاً. أعرف أن بوسع المرء في المحترف الروائي استعارة ابتكارات الآخرين الفنية، وهذا مشروع جداً، غير أنني أميل إلى اقتناء أو إلى محاولة ابتكار ما يخصني، فأنا أخشى من بالة الفن والكتابة".
الكاتب الذي ناصر الثورات العربية، وبالأخص الثورة السورية، يرى أن "الثقافة العربية غير منحازة للثورات، فقد راهنت طويلاً بواسطة رجالها، أي المثقفين، على قوى مجهولة، أو سحرية، أو متخيلة، وهلامية أيضا، كي تنجز الثورة، ولكنها حين واجهت الحقيقة، وهي أن مَن قام بالثورات هم أشخاص آخرون، لم يتطابقوا مع القياسات أو المواصفات المعدّة، انسحبت أو تراجعت عبر عدد ممن ادّعوا تمثيلها".
حين يتحدث عزام عن الثقافة والثورة يتوخى الابتعاد عن التعميم، حيث يرى أن "الثورات العربية قد سحبت من مثقفين كثر رصيدهم. وبدلاً من أن يعلن هؤلاء إفلاسهم، أو يناصروا الثورة، راحوا يشتمون السوق والحارة والريف والبلدات والقرى والمدن التي جاءت بهؤلاء الثوار الذين خالفوا المواصفات. وراح قسم منهم يتيه مع ذاته الجريحة بحثاً عن مسوغات. يحس المرء هنا أن الغيظ هو سيد مواقف المثقفين العرب الذين لم تطابق الصورة الواقعية المتخيل الفكري الذي افترضوا أن الثورة يجب أن تتوافق معه. إنهم مغتاظون إلى حد أن بعضهم راح يتهم الثوار، ومنهم من مات بالرصاص، بالاختلاس!".
يراقب عزام بعناية شديدة الكتابات الراهنة التي ترافق الثورة، لكنه متفائل بمستقبل الأدب السوري. وحين نسأله ألا تسبّب هذه الكتابة المؤدلجة نوعاً من التشويش على الكتابة الحقيقة، الموجودة، أو القادمة بلا شك؟ ألا تتلقى الثقافة هي الأخرى مزيداً من الضربات؟؟ يجيبنا: "الكتابة التي ترافق الثورات تميل عادةً إلى التسجيل. سوف يتسامح المرء قليلا مع النصوص ذات الطبيعة الدعائية، التي لن تشوش على الفن إلا لفترات قصيرة. هذا ما حدث إبان جميع الثورات، خذ الثورة الفرنسية، وثورة أكتوبر مثلاً. لم تستطع الكتابات الدعائية أن تفعل شيئا مقابل عمل روائي كبير مثل "الدون الهادئ". لقد اختفت جميعها إلا من التأريخ الأدبي، وبقيت "الدون الهادئ" للقراءة. فمن يقدر على توجيه أي ضربة لمن سيكتب في المستقبل "دوننا الهادئ"، أو "الحرب والسلم" التي تخصّنا؟".