25 يناير 2024
مقدمة واعدة لانتفاضة كبرى في العراق
تواصل الانتفاضة العراقية العملاقة كفاحها السلمي من أجل نيل حقوق العراقيين المشروعة، أو جزء منها، كتوفير الماء والكهرباء والدواء. وعلى خلاف الانتفاضات السابقة، فإن حكومة عادل عبد المهدي (ومليشياتها) لم تتمكن من قمع هذه الانتفاضة خلال ساعات أو يوم أو يومين، على الرغم من سقوط مئات الجرحى والقتلى من أبناء هذه الانتفاضة الأشاوس، جرّاء استخدام الإطلاقات الحية وخراطيم الماء الحار والقنابل المسيلة للدموع. وكذلك لم تنفع الوسائل القديمة من تشويه صورة الانتفاضة بالتشكيك في هويتها الوطنية مرّة، وتنفيذهم أجندات إقليمية، ودفع البلاد إلى حرب أهلية مرة ثانية، ووصف أبنائها مخرّبين ومندسّين مرة ثالثة، حيث سقطت جميعها دفعة واحدة جرّاء اشتراك معظم المدن الجنوبية فيها. بل على العكس تماما، كلما ازداد حجم استخدام القوة وحملات التشويه والتشكيك ازدادت قوة الانتفاضة وفاعليتها والتحاق الناس بها أفواجا أفواجا، وفي معظم المدن العراقية.
لقد تميزت هذه الانتفاضة عن سابقاتها في أمور كبرى عديدة، فهي أعلنت عن نفسها وعن يوم انطلاقتها وحدّدت أماكنها ونوع شعاراتها، الخدمية منها والسياسية قبل أكثر من شهر عبر منصّات التواصل الاجتماعي. وهي قد بدأت قوية، وانتشر لهيبها بسرعة البرق إلى المحافظات
الأخرى، وخصوصا الجنوبية منها، وإن عماد هذه الانتفاضة هو، في الغالب، من الشباب، ناهيك بمشاركة النساء فيها لأول مرة، حيث لعبن دورا كبيرا في مساعدة أبناء الانتفاضة، وكذلك حسن التنظيم ودقة الأداء. كما أن الانتفاضة ولدت حالة من الرعب لأعداء العراق في الداخل والخارج، فقد وجدت الحكومة ومليشياتها المسلحة فيها بداية جدّية لإسقاطهم دفعة واحدة. أما أميركا العدو المحتل الأول، فإنه وجد في هذه الانتفاضة العملاقة ردا صريحا وواضحا على رفض العراقيين الاستسلام للأمر الواقع المرير، مع إصرارهم على القتال المستمر بكل الوسائل، لانتزاع آخر حق من حقوق العراق وأهله. في حين كان الأكثر خيبة بين الخائبين إيران التي ظنت أنها روّضت الشعب العراقي باتجاه تأييدها والركض وراء مخططاتها، حيث حرق المتظاهرون علمها ورفعوا شعارهم المعروف "إيران برّه برّه وبغداد تبقى حرّة".
في المقابل، سارت هذه الانتفاضة في ظل قيادة أو لجان تنسيقية ذات خبرة ومهارة عالية، وعدم انتمائها إلى أية جهة سياسية، حيث كان شعارها العراق ثم العراق ثم العراق. فقد تحصّنت تماما ضد أن يركب موجتها أي طرف في العملية السياسية. والأهم من ذلك أن هذه القيادة قد أعدت العدة لأي حالة طوارئ قد تحدث. ولذلك كان نقل القتلى والجرحى وتوزيع المياه ومضادات القنابل المسيلة للدموع يسيران بانتظام شديد. أما شعاراتها فقد حصرت في شعارات خدمية وسياسية تقطع الطريق على الحكومة من استغلالها بطريقةٍ تخدم مصالحها. أما تعاملها مع الجيش والأجهزة الأمنية فكان متناسقا بحيث كسبت عطفهم وود كثيرين منهم.
الأهم من ذلك أن قيادة الانتفاضة أدركت، على ما يبدو، أن المراهنة على تحقيق مطالبهم المشروعة، أو جزء منها، عبر الطرق السلمية مراهنة فاشلة، الأمر الذي سيدفعها، هذه المرة، إلى إعادة حساباتها وتقييم مواقفها وتصحيح آلية عملها ووسائل نضالها. وبالتالي، إذا كان هناك ما يعيق الانتفاضات السابقة في السير على الطريق الصحيح، فإنه قد زال الآن إلى حد كبير. بل لا مجازفة في القول إن المنتفضين أصبحوا مستعدين، إذا لم يكن الآن فغدا، لاستخدام حقهم المشروع في مواجهة القوة بالقوة، بعد عجزهم عن نيل حقوقهم بالطرق السلمية، خصوصا وأن الالتزام الحديدي بالنهج السلمي للانتفاضة لتحقيق الإصلاح لم ينتج طوال السنين الماضية سوى الخيبة تلو الأخرى.
ولكن هذا ليس كل شيء، فالانتقال من مرحلة نضال معينة إلى مرحلة أخرى لا يقتصر على مثل هذه التوجهات الصحيحة على الرغم من أهميتها، وإنما يحتاج إلى عمل دؤوب، من أجل ترسيخ
هذه القناعات لدى الناس من جهة، والاستعداد لإحباط أية محاولة مضللة للالتفاف عليها من جهة أخرى، مثل إجبار رئيس الحكومة، عادل عبد المهدي، على الاستقالة، وتشكيل حكومة من وجوه جديدة أو محاسبة عدد قليل من القتلة أو الحرامية أو الإعلان عن إصلاحات ترقيعية. في المقابل وعلى الجهة الأخرى، لن يكون إنجاز قيادة الانتفاضة وحدها مهمة من هذا الوزن الثقيل سهلا، وإنما يتطلب من العراقيين جميعا، كقوى وأحزاب وطنية، وشخصيات سياسية، وكتاب ومثقفين وشعراء وفنانين، تقديم كل أنواع الدعم والإسناد وما ملكت أيديهم من وسائل نافعة، وإلا يكون مثلهم كمثل اليهود الذين قالوا لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا، إنا ها هنا قاعدون.
ما يكدّر هذه الصورة المشرقة دخول بعض ممن يحسبون أنفسهم زورا وبهتانا ضمن المعسكر المعادي للاحتلال وعمليته السياسية الطائفية المقيتة، تحت مسمّيات رنّانة، مثل محلل استراتيجي أو صاحب مركز دراسات أو خبير سياسي أو مفكر مقاوم، وهم في حقيقتهم مجموعة من الانتهازيين والوصوليين والمنتفعين ببقاء الحال كما هو عليه. ومهمة هؤلاء زرع المخاوف بين الناس، وتحذيرهم من النتائج السلبية لمثل هذه الانتفاضات، ويضربون الأمثال بما حدث في سورية أو ليبيا أو اليمن، متناسين أن الانتفاضات تقاس بمشروعيتها، وليس بنتائجها غير المتوقعة. أو يعمدون إلى الخلط بين السبب والنتيجة. حيث لا أمل في انتزاع الحقوق المشروعة نتيجة قبل القضاء على أسبابها، حيث التدهور الذي حصل في كل مرافق الحياة كان نتيجةً للاحتلال، وتنصيب حكومات تخدم مشاريعه. وإذا لم يتم القضاء على حكومات كهذه، ومن ثم طرد المحتل، بكل جنسياته، فلا يمكن إنهاء معاناة العراقيين في كل مجالات الحياة. وإذا حدث تغيير، فإنه لن يتعدّى بعض الإصلاحات الترقيعية، والتي هي أشبه بمسكّناتٍ تخفف عن المريض آلامه، ولا تقضي عليها.
هذه الانتفاضة التي شملت معظم مدن العراق، ومشاركة النساء فيها لأول مرة، هي تتويج لتاريخ العراق الكفاحي، ودرس يعشي بصر الذين شبه لهم أن العراقيين قد استسلموا للأمر الواقع. فها هم أبناء العراق يواجهون النار والحديد لحكومة عبد المهدي، بمزيد من الشجاعة والصمود.. وبالتالي، من حق كاتب هذه السطور التفاؤل باقتراب موعد الانتفاضة الكبرى، وهو تفاؤل لا
يدخل في باب الوهم والخيال، وإنما في باب الحقائق العنيدة، خصوصا أن لشعبنا تاريخا طويلا ومشرفا في هذا المجال. فهو الذي قام بانتفاضاتٍ عديدة سجلها التاريخ العراقي بأحرف من نور، مثل ثورة الشعب العراقي الباسلة ضد الاستعمار البريطاني، وضد حكوماته العميلة، بدءا بثورة العشرين المجيدة ومرورا بثورة 1941 وانتهاء بالانتفاضات في الأعوام 1948 و1952 و1956، والتي توّجت بثورة 14 تموز، وكان جديدها اندلاع المقاومة العراقية ضد المحتل الأميركي، وتلقينه دروسا قاسية في عدد من المدن، وكان أبرزها تلك المعارك التي خاضتها المقاومة العراقية في مدينة الفلوجة الباسلة.
نعم قد تتمكن قوة الحديد والنار من قلب هذه المعادلة وإجبار الانتفاضة على التراجع، ولكنها لن تتمكن من إخماد نيرانها إلى الأبد، فهي ستلد انتفاضة أخرى أقوى وأشد ضراوة منها. والتاريخ قدم لنا حقيقة ثابتة أن النصر، في النهاية، حليف الشعوب قطعا.
في المقابل، سارت هذه الانتفاضة في ظل قيادة أو لجان تنسيقية ذات خبرة ومهارة عالية، وعدم انتمائها إلى أية جهة سياسية، حيث كان شعارها العراق ثم العراق ثم العراق. فقد تحصّنت تماما ضد أن يركب موجتها أي طرف في العملية السياسية. والأهم من ذلك أن هذه القيادة قد أعدت العدة لأي حالة طوارئ قد تحدث. ولذلك كان نقل القتلى والجرحى وتوزيع المياه ومضادات القنابل المسيلة للدموع يسيران بانتظام شديد. أما شعاراتها فقد حصرت في شعارات خدمية وسياسية تقطع الطريق على الحكومة من استغلالها بطريقةٍ تخدم مصالحها. أما تعاملها مع الجيش والأجهزة الأمنية فكان متناسقا بحيث كسبت عطفهم وود كثيرين منهم.
الأهم من ذلك أن قيادة الانتفاضة أدركت، على ما يبدو، أن المراهنة على تحقيق مطالبهم المشروعة، أو جزء منها، عبر الطرق السلمية مراهنة فاشلة، الأمر الذي سيدفعها، هذه المرة، إلى إعادة حساباتها وتقييم مواقفها وتصحيح آلية عملها ووسائل نضالها. وبالتالي، إذا كان هناك ما يعيق الانتفاضات السابقة في السير على الطريق الصحيح، فإنه قد زال الآن إلى حد كبير. بل لا مجازفة في القول إن المنتفضين أصبحوا مستعدين، إذا لم يكن الآن فغدا، لاستخدام حقهم المشروع في مواجهة القوة بالقوة، بعد عجزهم عن نيل حقوقهم بالطرق السلمية، خصوصا وأن الالتزام الحديدي بالنهج السلمي للانتفاضة لتحقيق الإصلاح لم ينتج طوال السنين الماضية سوى الخيبة تلو الأخرى.
ولكن هذا ليس كل شيء، فالانتقال من مرحلة نضال معينة إلى مرحلة أخرى لا يقتصر على مثل هذه التوجهات الصحيحة على الرغم من أهميتها، وإنما يحتاج إلى عمل دؤوب، من أجل ترسيخ
ما يكدّر هذه الصورة المشرقة دخول بعض ممن يحسبون أنفسهم زورا وبهتانا ضمن المعسكر المعادي للاحتلال وعمليته السياسية الطائفية المقيتة، تحت مسمّيات رنّانة، مثل محلل استراتيجي أو صاحب مركز دراسات أو خبير سياسي أو مفكر مقاوم، وهم في حقيقتهم مجموعة من الانتهازيين والوصوليين والمنتفعين ببقاء الحال كما هو عليه. ومهمة هؤلاء زرع المخاوف بين الناس، وتحذيرهم من النتائج السلبية لمثل هذه الانتفاضات، ويضربون الأمثال بما حدث في سورية أو ليبيا أو اليمن، متناسين أن الانتفاضات تقاس بمشروعيتها، وليس بنتائجها غير المتوقعة. أو يعمدون إلى الخلط بين السبب والنتيجة. حيث لا أمل في انتزاع الحقوق المشروعة نتيجة قبل القضاء على أسبابها، حيث التدهور الذي حصل في كل مرافق الحياة كان نتيجةً للاحتلال، وتنصيب حكومات تخدم مشاريعه. وإذا لم يتم القضاء على حكومات كهذه، ومن ثم طرد المحتل، بكل جنسياته، فلا يمكن إنهاء معاناة العراقيين في كل مجالات الحياة. وإذا حدث تغيير، فإنه لن يتعدّى بعض الإصلاحات الترقيعية، والتي هي أشبه بمسكّناتٍ تخفف عن المريض آلامه، ولا تقضي عليها.
هذه الانتفاضة التي شملت معظم مدن العراق، ومشاركة النساء فيها لأول مرة، هي تتويج لتاريخ العراق الكفاحي، ودرس يعشي بصر الذين شبه لهم أن العراقيين قد استسلموا للأمر الواقع. فها هم أبناء العراق يواجهون النار والحديد لحكومة عبد المهدي، بمزيد من الشجاعة والصمود.. وبالتالي، من حق كاتب هذه السطور التفاؤل باقتراب موعد الانتفاضة الكبرى، وهو تفاؤل لا
نعم قد تتمكن قوة الحديد والنار من قلب هذه المعادلة وإجبار الانتفاضة على التراجع، ولكنها لن تتمكن من إخماد نيرانها إلى الأبد، فهي ستلد انتفاضة أخرى أقوى وأشد ضراوة منها. والتاريخ قدم لنا حقيقة ثابتة أن النصر، في النهاية، حليف الشعوب قطعا.
مقالات أخرى
26 نوفمبر 2023
15 يوليو 2022
05 أكتوبر 2021