لا عزاء لأعداء ثورة تشرين العراقية
احتفل ثوار تشرين في العراق بمناسبة دخول ثورتهم عامها الثالث، وشمل الاحتفال محافظات عديدة، منها العاصمة بغداد، حيث رفعوا شعارات تندّد بالحكومة وبالعصابات المسلحة، وتدين المحتل الأميركي ووصيفه الإيراني. وقد أراد الثوار من هذه الاحتفالية الرمزية تأكيد عدة حقائق، منها أن الثورة مستمرة وتواصل كفاحها حتى تحقيق أهدافها كاملة، طال الزمن أم قصر، وتبليغ رسالة إلى أجهزة القمع الحكومية وسلاح المليشيات المسلحة والحرس الثوري الإيراني، مفادها بأن سلاحكم واغتيالاتكم واختطاف النشطاء لن يخيفنا، وبالتالي أنتم عاجزون عن إنهاء الثورة. وثالثا، إن هدف الثورة المركزي، وهو استعادة الوطن المنهوب، غير قابل للتراجع عنه، أو المساومة عليه، أو القبول بأنصاف الحلول. ناهيك عن الرسائل الأخرى التي دحض فيها ثوار تشرين كذبة اشتراكهم في الانتخابات التي ستجري بعد أيام، فقد صبّوا اللعنات على رعاة هذه الانتخابات بأهزوجةٍ تقول "انعل أبو إيران لا أبو أمريكا". أما أهم رسائل هذا الاحتفال فهي فضح جميع ادّعاءات أحزاب العملية السياسية ومليشياتها التي روّجوها عن انتهاء ثورة تشرين، أو أنها سلّمت زمام أمورها بيد حكومة مصطفى الكاظمي، فيما الثورة شملت عدة مدن عراقية، وحظيت بدعم وتأييد فئات واسعة من المجتمع العراقي وطبقاته ومذاهبه المتنوعة.
الآلية التي وضعتها الثورة لإدارة ذاتها أفشلت جميع محاولات الأحزاب الحاكمة في ركوب موجتها، وطردها خارج ساحات التحرير
مصدر قوة هذه الثورة وديمومتها تميزها عن سابقاتها في عدة جوانب، حيث حدّدت شعاراتها الرئيسية بإسقاط العملية السياسية برمتها، على خلاف الثورات السابقة التي أولت اهتمامها بالشعارات الخدمية. ثم وضعت آلية لإدارتها من خلال لجان تنسيقية تشرف عليها قيادة عليا، وتحكمها درجةٌ عالية من الانضباط وحسن التنظيم ودقة الاداء. والأهم من ذلك اعتماد الثورة على الشباب الذين أبعدتهم الحكومات المتعاقبة عن النشاط السياسي. إضافة إلى إشراك النساء فيها أول مرة، حيث لعبن دورا كبيرا في مساعدة أبناء الثورة الأبطال، بالإضافة إلى مشاركة الطلاب على جميع المستويات. بدءا بطلاب الابتدائية والمتوسطة ومرورا بطلاب الثانوية وانتهاء بطلاب الجامعات. ناهيك عن اشتراك كل الجمعيات والنقابات المهنية والسياسية، من عمال وفلاحين وأطباء ومحامين ومهندسين وفنانين .. إلخ. الأمر الذي ولّد حالة من الرعب في صفوف الحكومة ومليشياتها المسلّحة، حيث وجدت، في هذه الثورة، بداية جدّية لإسقاطهم دفعة واحدة. أما أميركا، فإنها وجدت فيها ردّا صريحا وواضحا يجسّد رفض العراقيين الاستسلام للأمر الواقع، والإصرار في المقابل على القتال المستمر بكل الوسائل لانتزاع آخر حق من حقوق العراق وأهله. في حين كانت إيران الأكثر خيبة بين الخائبين، فبعد أن ظنت أنها روّضت الشعب العراقي، وجدت ما بنته في 16عاما قد تهدّم في ساعات معدودة، حيث أحرق الثوار قنصلياتها في محافظات عدة، كالنجف وكربلاء، ورفعوا فوقها شعار الثوار "إيران برّه برّه وبغداد تبقى حرّة".
الآلية التي وضعتها الثورة لإدارة ذاتها لم تمكّنها من إحباط جميع مؤامرات الأحزاب الحاكمة، أو المنضوية تحت خيمة عملية الاحتلال السياسية فحسب، وإنما أفشلت جميع محاولاتهم في ركوب موجتها، وطردها خارج ساحات التحرير. في حين كان تعاملها مع الجيش والأجهزة الأمنية متناسقا وحضاريا، بحيث كسبت عطفهم وودّهم وأحيانا حمايتهم. الأمر الذي أدّى إلى تشجيع الناس على الدخول في رحاب الثورة، والالتفاف حولها، خصوصا أن الأشرار يدخلون يوما بعد آخر في أعماق مستنقع الجريمة والسرقة والقتل، والصراع على تقاسم السلطة والمال الحرام. بمعنى آخر، أثبتت الثورة قوتها واستمراريتها وإصرارها على تحقيق انتصارها النهائي، وذلك باستعادة استقلال العراق وسيادته، وطرد القوات الأجنبية، وتقديم القتلة والمجرمين إلى المحاكم العادلة لنيل عقابهم، سواء لمن هم داخل العراق أو خارجه.
سطّرت ثورة تشرين العراقية ملاحم كبيرة في الشجاعة والإقدام والإصرار والإرادة الفولاذية، الأمر الذي سيمكّنها من إفشال جميع خطط التآمر
لا نجادل في أن الثورة تتعرّض لامتحان صعب. على الرغم من قوتها، ومن أنها أصبحت خيارا واقعيا وموضوعيا للتغيير، وعلى الرغم أيضا من اكتساب قياداتها خبراتٍ واسعة ورؤية ثاقبة، مقرونة بإصرار راسخ ومبدئي على رفض الهزيمة، والمضي بالثورة حتى النصر، وعلى الرغم من التأييد الشعبي، ما زال بيد الأشرار قوة السلاح والمال وجيش من المرتزقة على أهبة الاستعداد للقتل من دون رحمة، ناهيك عن دعم المرجعيات الدينية، وفي مقدمتها المرجع الأعلى علي السيستاني. بمعنى أوسع وأكثر شمولا، لن يرفع هؤلاء الراية البيضاء بسهولة، وسيحاولون، بكل ما يملكون من قوة عسكرية وسياسية وإعلامية، قتل روح الثورة وإطفاء جذوتها وقلع جذورها التي ترسّخت في عقول العراقيين، ومن ثم إجبارها على التخلي عن أهدافهم المعلنة، والقبول بما يجود به هؤلاء.
على الرغم من حداثة زمنها، سطّرت ثورة تشرين العراقية ملاحم كبيرة في الشجاعة والإقدام والإصرار والإرادة الفولاذية، الأمر الذي سيمكّنها من إفشال جميع خطط التآمر عليها بكل صفحاتها المختلفة، خصوصا أن عموم العراقيين قد أدركوا أن لا طريق للخلاص سوى الثورة، الأمر الذي سيؤدّي حتما إلى دخولهم في رحابها أفواجا أفواجا، وفي المقدمة منهم جميع النخب الوطنية والكفاءات وأصحاب الخبرات، لمساعدة الثورة وتوضيح أهدافها المشروعة، والدفاع عنها وإحباط كل محاولة للنيْل منها أو تشويهها.
الانتخابات المقبلة التي صوّرها بعضهم بأنها ستنقذ العراق من محنته، ستفوز فيها وجوهٌ ستواصل العبث بشؤون البلاد والعباد
أما الذين يراهنون على فوز مقتدى الصدر في الانتخابات التشريعية الأحد المقبل (10 أكتوبر/ تشرين الأول الحالي)، وأنه سيشكل الحكومة الإصلاحية، فهذه كذبة كبرى، فقد سبق لمقتدى أن فاز بالانتخابات الماضية، ثم تخلى بالكامل عن برنامجه المتضمن 45 بندا، وخصوصا البنود المتعلقة بمحاربة الفساد وإلغاء المحاصصة الطائفية، ودعوته إلى ثورة حقيقية ضد الفاسدين وفتح ملفاتهم الكبرى، ووضعهم خلف القضبان. بل ذهب أبعد من ذلك، حيث أقام تحالفا للفوز بالكتلة الكبرى مع عمّار الحكيم الذي وصفه ثوار عراقيون بزعيم النشّالة، ومع هادي العامري الذي أعلن، من دون حياء، إنه يسعى إلى أن يكون العراق مثل إيران يؤمن بولاية الفقيه، ومع إياد علاوي عرّاب الاحتلال الأميركي. وهذا ليس بالأمر الغريب، فمقتدى جزءٌ من العملية السياسية، ولن يتردّد في ارتكاب أي فعل لحمايتها من السقوط. بمعنى أشمل، القادم الجديد، مقتدى الصدر أو غيره، ضعيفا كان أو قويا، وطنيا أو عميلا، لن يتمكّن في ظل هؤلاء من تحقيق أي إصلاح مهما كان متواضعا لصالح الشعب العراقي. هكذا فعلت جميع الحكومات التي تعاقبت في ظل الاحتلال. بدءا من إياد علاوي وإبراهيم الجعفري، ومرورا بنوري المالكي، وحيدر العبادي وعادل عبد المهدي، وانتهاء بمصطفى الكاظمي.
على هذا الأساس، لا يجازف الكاتب هنا إذا كرّر القول لأعداء ثورة تشرين إن الموجة الثالثة منها آتية لا ريب فيها، وبقوة أشد وزخم أكبر ومشاركة أوسع قد تتعدى مئات الألوف. وما التظاهرات في الاحتفالية الرمزية في ساحة التحرير ببغداد، والساحات الأخرى في المدن العراقية، وأهمها تظاهرة الناصرية عاصمة الثورة، سوى تمارين تسبق اليوم الموعود، خصوصا أن الانتخابات المقبلة التي صوّرها بعضهم بأنها ستنقذ العراق من محنته، ستفوز فيها وجوهٌ ستواصل العبث بشؤون البلاد والعباد. .. وليس لدى الكاتب أدنى شك بأن الانتفاضة الكبرى قادمة، عاجلا أم آجلا، وأن النصر سيكون حليفها بكل تأكيد.