مقاعد هجرها النقّاد

19 نوفمبر 2015
عادل سيوي/ مصر
+ الخط -

في مصر، يذهب كثير من المتلقّين لحضور الندوات التي تجري فيها نقاشات حول بعض الأعمال الأدبية الصادرة حديثاً، خصوصاً الروائي منها، آملين أن يستمعوا إلى قراءات نقدية تسلّط الضوء على ما لم يستطيعوا إدراكه في النّص.

غالباً، يلتقي الحضور بـ"نقّاد" حاذقين، يستعينون بمراياهم المحدّبة أو المقعّرة في تقديم قراءاتهم التي يغيب عنها جوهر الفكر النقدي، ولا يحضر فيها سوى الأحكام العامة التي لا تنفصل عمّا هو سائد اجتماعياً وأخلاقياً.

في واحدة من هذه الجلسات، ناقشت إحدى الروائيات - باعتبارها روائية وناقدة - عملاً جديداً لكاتب شاب، وذهبت إلى انتقاد ما أسمته الأسلوب العاطفي الجياش الذي اتّسم به بعض مواضع الرواية. في رأيها، فإن هذه العاطفة تلائم الشعر، لا السرد. عموماً، كانت تقدّم الكاتبة آراءها "النقدية" بنبرة يصحّ تسميتها بالأبويّة؛ إذ حملت أسلوباً يرتكز على الوصاية.

في حادثةٍ مشابهة، راح أحد "النقاد" يلقي وصايته الدينية على الكاتب؛ إذ عاتبه قائلاً: "لماذا كتبت على لسان أحد الشخصيات "فتحت القرآن على كبار السور القرآنية"، فالأصح أنّها طوال السور". هنا، تجاهل "الناقد" الجوانب الفنية التي بُنيت من خلالها الشخصية، فهي غير متدينة، بينما الملاحظة تتأتّى من الوعي الديني لصاحبها.

لم يقف "الناقد" عند هذا الحد، بل ذهب ليحاكم الروائي أخلاقياً؛ حيث وجّه له ملاحظة أخرى حول شخصية تقيم علاقة مع امرأتين في الوقت نفسه، مستطرداً بسخرية: "لماذا لم تجعل تلك السيدتين تلتقيان داخل الرواية لنرى ما قد يحدث بينهما من صراع.. لكن، على أية حال، الرواية قد كُتبت"، في إشارة منه إلى أنّ الأوان قد فات.

هكذا، يتحوّل أولئك "النقاد" إلى أوصياء ورقباء، لن يمانعوا أن يبقوا فوق رأس الكاتب لحظة إنجازه روايته، حتى تخرج كما يريدون لها أن تكون؛ خالية من كل "الأخطاء" القيمية والدينية والاجتماعية التي تثير حفيظتهم. وربّما يتمنّون لو تُتاح لهم الفرصة لكتابة رواية موازية لكل عمل يصدر.

بعيداً عن الناقد الوصي على الثقافة الدينية والاجتماعية، ثمّة ناقد آخر، غارقٌ في دهشته وانفعاله المبالغ فيهما تجاه الرواية التي يناقشها في ندوةٍ ما. في هذه الحالة، يظلّ "الناقد" يُسهب في مديح الرواية، متعاملاً معها بمنتهى الرقة والسلاسة، ولا ينسى أن ينتهز بعض الحوارات التي يواظب فيها على الاستشهاد بمقاطع من الرواية.

بعد انتهاء ندوته، قد يُجري الصحافي مجموعة لقاءات، واحد منها مع المسؤول عن دار النشر التي استضافت هذا "الناقد"، ويسأله: هل رشحتم هذا العمل للجائزة الفلانية؟ تأتي الإجابة كما هي مُتوقّعة: نعم. إجابة تفسّر غياب التشريح النقدي الحقيقي في سباق الجوائز التي قد يلجأ بعض محكميها إلى قراءة مراجعة هذا الناقد المادح، إن ضاق بهم الوقت، ولم تُتح لهم قراءة الرواية بأنفسهم.

بعض هؤلاء "النقاد" الذي يوجّهون خطابهم، بشكلٍ أو بآخر، إلى لجان الجوائز والجمهور المحافظ فقط، لا ينكرون ذلك إن تحدّثوا حول الأمر في جلسةٍ في مقهى. يوردون لهذا أسباب كثيرة، تتعلّق بما يطلبه السوق الذي لا يهتم بالناقد المفكّر بقدر اهتمامه بذلك المتحدّث؛ فالأوّل لن يأبه به أحد وسيظلّ غائباً، بعكس الثاني.

ليست هذه مناسبة للحديث عن غياب نقّاد خارج إطار الوصاية تارة، والتطبيل تارة أخرى، في ظل واقع يشهد شبه غياب كلّي لهم؛ لكن، من جهةٍ أخرى، هي إشارة إلى مشهدٍ سيكون الوقت كفيلاً بتلاشيه؛ إذ سينزل هؤلاء عن المنصّات، ليجسلوا في صفوف المستمعين ناظرين إلى مقعد ناقد.. فارغ.



اقرأ أيضاً: النقد المستحيل
المساهمون