الموت بسبب الإهمال الطبي شائع جداً في السجون المصرية، وأرقامه متصاعدة لأسباب عدة، يأتي من ضمنها فيروس كورونا الجديد، خلال الفترة الأخيرة
في الثالث عشر من يناير/كانون الثاني الماضي، توفي المعتقل السياسي المصري/ الأميركي، مصطفى قاسم، نتيجة إضرابه عن الطعام، احتجاجاً على الحكم عليه بالسجن المشدد 15 عاماً في قضية فضّ اعتصام رابعة العدوية (2013) وكان يعاني من داء السكري، ومن مشكلة في الغدة أثرت على الكبد. توفي قاسم، ففتحت النيابة العامة المصرية تحقيقاً بشأن ملابسات الوفاة، وانتدبت طبيباً من الطبّ الشرعي لتحليل الجثمان. لكنّ الأمر انتهى بمنع قوات الأمن المصرية أسرته من إقامة عزاء له، وبعض الإدانات الإقليمية والدولية خفتت ثم تلاشت تماماً.
وفي الثاني من مايو/أيار الماضي، توفي الفنان المصري الشاب، شادي حبش، داخل محبسه بسجن تحقيق طره، بعد استغاثات من المعتقلين معه داخل الزنزانة لإنقاذه، من دون استجابة. توفي بعد مضي ثلاثة أشهر على فترة حبسه الاحتياطي من دون إحالة إلى المحاكمة، وكان من المفترض إخلاء سبيله في مارس/آذار الماضي. ثم فتحت النيابة العامة المصرية، تحقيقًا بشأن وفاة حبش، ألمحت فيه بشكل غير مباشر، إلى أنّه "انتحر"، وأرجعت مبدئياً سبب الوفاة إلى "شرب جرعة من الكحول". ونقلت شهادات من رفاقه في الزنزانة عن "تغيرات في مزاجه العام وتصرفاته وخلطه الكحول بالمشروبات الغازية". وانتهى الأمر، بعد أسابيع من بيانات الشجب والإدانة.
ما قبل مصطفى قاسم، وما بين وفاته ووفاة شادي حبش، وما بعدهما، سقط المئات ضحايا للإهمال الطبي في السجون المصرية، وتساوت الوفيات التي فتحت فيها النيابة العامة تحقيقاً، مع غيرها مما لم يُحدث ضجة إعلامية ولا وردت أسماؤها في بيانات شجب وإدانة. أما الدكتور عمرو أبو خليل، الذي توفي في السادس من سبتمبر/أيلول الجاري، داخل سجن العقرب شديد الحراسة، الذي يعد آخر ضحايا الإهمال الطبي المتعمد في السجون ومقار الاحتجاز المصرية، والضحية رقم 59 هذا العام وحده، فلم يفتح تحقيق في سبب وفاته، بالرغم من المناشدات المتعاقبة من أسرته بإنقاذ حياته، خصوصاً بعد إصابته بفيروس كورونا الجديد داخل السجن. وكانت الحال نفسها مع السجين مصطفى الجبروني، الذي توفي في العاشر من أغسطس/آب الماضي، ولم يعرف أهله بوفاته إلاّ بعدها بعشرة أيام، نتيجة عزل السجناء تماماً عن العالم الخارجي.
لكلّ ذلك، ترى المبادرة المصرية للحقوق الشخصية (منظمة مجتمع مدني مصرية) أنّ فتح النيابة العامة تحقيقاً في وفاة كلّ معتقل وسجين يجب أن يكون إلزامياً في حال وفاة أيّ مواطن داخل أحد أماكن الاحتجاز أو السجون، خصوصاً مع تصاعد الوفيات بوتيرة مرتفعة ترجِّح أنّ التقاعس الطبي الممنهج هو أحد الأسباب على الأقل، بغض النظر عن التاريخ المرضي للسجناء. وقالت المبادرة إنّه لا ينبغي ولا يصح في فترة لم تتجاوز أربعة أشهر، أن تتكرر وقائع الوفيات داخل أماكن الاحتجاز لأسباب صحية ومرضية، وأن تكون عصية على منظومة الرعاية الطبية داخل السجون".
وتفتقر السجون المصرية، بشكل عام في مصر، إلى مقومات الصحة الأساسية التي تشمل الغذاء الجيد والمرافق الصحية، ودورات المياه الصالحة والمناسبة لأعداد السجناء، وكذلك الإضاءة والتهوية وإمكانية التريض، كما تعاني في أغلبها من التكدس الشديد للسجناء داخل أماكن الاحتجاز. وأكدت المبادرة "تقاعساً ممنهجاً ومستمراً من قِبَل مصلحة السجون في الاستجابة للطوارئ الصحية ومضاعفات الأمراض المزمنة للمحتجزين، بما يشمل المحبوسين احتياطياً والسجناء".
الإهمال الطبي في السجون، أودى بحياة 917 سجيناً في الفترة ما بين يونيو/حزيران 2013 ونوفمبر/تشرين الثاني 2019، بحسب منظمات حقوقية مصرية. ونتيجة انتشار فيروس كورونا الجديد في مقار الاحتجاز المختلفة مع التعتيم الأمني الشديد، ارتفعت الوفيات في السجون ومقار الاحتجاز المختلفة خلال الأشهر الماضية، وكذلك الوفيات نتيجة التعذيب، سواء بالضرب المبرح أو الحبس الانفرادي ومنع العلاج والطعام والماء، أو في فترات الإخفاء القسري.
وطبقًا لمبادرة "دفتر أحوال مصر" الحقوقية، بلغ عدد الوفيات في السجون ومقار الاحتجاز المختلفة في الفترة من فبراير/شباط 2011 حتى إبريل/نيسان 2016، 834 وفاة، بمعدل ضحية كلّ يومين، مقسمين على 235 وفاة في 2011، و65 وفاة في 2012، و131 وفاة في 2013، و172 وفاة في 2014، و181 وفاة في 2015، و50 وفاة خلال الثلث الأول من 2016. المبادرة نفسها وزعت الضحايا مكانياً، إذ وقعت 338 وفاة من هؤلاء الضحايا في أقسام شرطة، و255 ضحية في سجون عمومية، و149 في مناطق سجون، و20 ضحية أثناء الترحيل من المحكمة، و5 ضحايا في سجون عسكرية.
ويبلغ عدد السجون في مصر 68، أُنشِئ 26 منها بعد وصول الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي إلى السلطة (2014). وعلاوة على هذه السجون، هناك 382 مقر احتجاز داخل أقسام ومراكز الشرطة في مختلف المحافظات، بالإضافة إلى السجون السرية في المعسكرات، وذلك وفقاً لتقرير صادر عن المنظمة المصرية لحقوق الإنسان.
وتزداد المطالبات الحقوقية بتوفير عدد كافٍ من الأطباء من الاختصاصات المختلفة في السجون، يتناسب مع عدد السجناء في كلّ سجن، واتخاذ المؤسسات المعنية التدابير الملائمة للحفاظ على صحة حياة السجناء، خصوصاً مع احتمالات صعود موجة ثانية من وباء كورونا في فترة الشتاء، وزيارة وتفتيش السجون وأماكن الاحتجاز دورياً، مع تفعيل المساءلة القانونية للعاملين بمصلحة السجون، ومن بينهم الأطباء، والإعلان بشفافية عن تفاصيل المساءلة القانونية.
وهناك أيضاً مطالبات بديهية بالتعامل الجاد مع استغاثات السجناء في الحالات الطارئة وتسهيل الإجراءات اللازمة لتلقي الرعاية الصحية داخل السجون أو في مستشفيات خارجية، وتخصيص ميزانية من وزارة الداخلية من أجل تحسين البنية التحتية في السجون وأماكن الاحتجاز، وتوفير الأجهزة والأدوات الطبية اللازمة، بدلاً من الاعتماد على الإسعافات الأولية فقط. كلّ هؤلاء الضحايا سقطوا، بينما تنصّ المادة 55 من الدستور المصري على أنّ "كلّ من يُقبض عليه، أو يُحبس، أو تقيَّد حريته تجب معاملته بما يحفظ عليه كرامته، ولا يجوز تعذيبه، ولا ترهيبه، ولا إكراهه، ولا إيذاؤه بدنياً أو معنوياً، ولا يكون حجزه أو حبسه إلاّ في أماكن مخصصة لذلك، لائقة إنسانياً وصحياً، وتلتزم الدولة بتوفير وسائل الإتاحة للأشخاص ذوي الإعاقة. ومخالفة شيء من ذلك جريمة يعاقب مرتكبها وفقاً للقانون. وللمتهم حق الصمت، وكلّ قول يثبت أنّه صدر من محتجز، تحت وطأة شيء مما تقدم، أو التهديد بشيء منه، يهدر ولا يعوّل عليه". وتنصّ المادة 56 على أنّ "السجن دار إصلاح وتأهيل. تخضع السجون وأماكن الاحتجاز للإشراف القضائي، ويحظر فيها كلّ ما ينافي كرامة الإنسان، أو يعرّض صحته للخطر. وينظّم القانون أحكام إصلاح وتأهيل المحكوم عليهم، وتيسير سبل الحياة الكريمة لهم بعد الإفراج عنهم".