مفردات مشبوهة

18 اغسطس 2017
شيزيني هيرست/ البرازيل
+ الخط -
لستُ متأكداً فيما إذا كان الشعراء هم الذين أكسبوا النثر سمعة سيئة، فهناك من راح يقرن هذه المفردة بالرداءة، أو بالزمن الرديء، على نحو ما فعل نزار قباني حين خاطب الحبيبة المجهولة قائلاً: "هذا زمان النثر يا حبيبتي".

ومن غير المعروف زمن ولادة هذه الاستعارة التي تحتقر النثر، أو تضعه في قفص الاتهام بالتفاهة والضحالة. وهي استعارة مبتذلة في الحقيقة، وربما كانت تشير إلى نوع من التعالي عن الكتابة الجديدة التي باتت تتابع حياة الناس اليومية، وتسجّل الوقائع التي تخصهم، والهموم التي تشغلهم. بينما تحتفظ للشعر بالمقاصد النبيلة والجمال والسمو والرفعة والغزل.

ومن غير المستبعد أن يكون من أطلق تسمية قصيدة النثر قد قصد عدم التسامح مع هذا النوع الشعري الجديد الذي كسر قواعد النظم والوزن في القصيدة العربية، فألصق به كلمة "النثر". وقد أُقر المصطلح نسبياً، فيما بعد، بفعل الاستخدام، لا القبول أو التصديق على المنجز الشعري.

ويعود الفضل إلى سرفانتس في الانتقال من عالم الشعر حيث البطولة والملوك والأساطير، وحيث تخوض الشخصيات صراعات لا يذكر فيها اليومي، إلى عالم النثر، حين أرسل بطله دون كيخوته إلى أمكنة يتحدث فيها البشر عن ألم الأسنان، وأوجاع الظهر، في الحياة اليومية، كما يقول كونديرا. وقد يكون هذا التبدل هو أساس الهجاء الذي يوجهه أنصار الشعر للنثر.

ولكن النثر العربي هو الذي قاد حركات التجديد في الثقافة العربية، وذلك حين بدأ في نحت واشتقاق المفردات الجديدة، لا لإضافتها إلى المعجم وحسب، بل للتعبير عن احتياجات الناس اليومية المستجدة في مواجهة التطوّرات المعاصرة. وبعض هذه المفردات حاولت أن تبحث، أو تعبّر عن المدى الذي يمكن أن تكون وصلت إليه الحقوق والحريات في بلاد العرب.

وليس من قبيل المصادفات أن يكون أحمد فارس الشدياق ذاته هو الذي وضع كلمات مثل التمثيل والانتخاب ومجلس النواب والجريدة والجامعة والجواز والمنتدى والتآلف "الهارموني" في لغة النثر العربية. ومنذ أيام هذا الكاتب الحر، لا يزال العرب يخوضون المعارك حول المعاني المقلقة التي تشير إليها كل مفردة من هذه المفردات، فالنحت في اللغة هنا ليس مجرّد عمل تقني وحسب، بل هو اقتراح لما تضيفه المفردة الجديدة على المعجم والحياة العربيين من معان. وبعض تلك المفردات تغدو مشبوهة، ويخوض الطغاة الحروب ضدها.

ويمكن للاسترسال في ذم المفردات أن يكون ذريعة لاتخاذ المواقف، فـ"الحرية" باتت اليوم في مأزق. إذ يعمل أعداء الثورات العربية على وأد المعنى الذي تشير إليه في وعي الناس الذين انتفضوا من أجل أن ينعموا بظلالها.

ويلاحق الناشطون الذين يعيدون إنتاج المعنى في الحياة اليومية كمفردة "المنتدى" مثلاً. حيث يحظر الاجتماع في تلك الأماكن التي يتبادل الناس فيها الآراء، أو يجري امتصاص المعنى الأصلي لها، كمفردة "الانتخاب". فتتحول صناديق الاقتراع إلى مهزلة تصويت مزوّر، أو تنقل أشخاصاً يفتقرون للكفاءة لـ"تمثيل" الشعب، ويقتصر دورهم على التصفيق، كما هو حال مجالس النواب في العالم العربي.

المساهمون