بدأت قوات النظام السوري، منذ أيام، جهداً عسكرياً منسَّقاً، في محاولة للسيطرة على ما تبقى من أحياء حمص المحاصرة والمدمرة التي لا تزال بيد قوات المعارضة، وسط تحذيرات، أقرب إلى نداءات الاستغاثة، لا ينفكّ يطلقها الناشطون وبعض قادة الكتائب المقاتلة، من سقوط وشيك للمدينة.
وتُرجمت الحملة العسكرية الجديدة، حتى الآن، بقصف مكثّف مدفعي وصاروخي وجوي على معظم الأحياء الـ14 التي لا تزال تحت سيطرة مقاتلي المعارضة، مع محاولات حذرة للتقدم الميداني، لم تحقّق نجاحاً كبيراً حتى الآن. وتدور معارك على شكل حرب شوارع يجيدها مقاتلو المعارضة، إذ يعرفون المنطقة جيداً.
ومن أبرز الأحياء المحاصرة، حمص القديمة وباب هود ووادي السايح. وتقع هذه المناطق، التي لا تتعدى مساحتها أربعة كيلومترات مربعة، تحت حصار خانق مفروض من القوات النظامية منذ نحو عامين.
وتعتمد استراتيجية القتال لدى مقاتلي المعارضة، الذين يقدّر عددهم بـ1200 مقاتل، على "حرب الأنفاق" في صدّ هجوم قوات النظام، على حد تعبير قائد جبهة حمص في هيئة أركان الجيش السوري الحر، العقيد فاتح حسون. كما يُستخدَم ركام المباني المدمرة، كمتاريس، ولنصب الكمائن لهذه القوات من خلال حفر أنفاق تحتها، والتنقل عبرها. وللركام "فائدة" إضافية، على حد تعبير حسون، وهي أنه يعيق تقدم دبابات جيش النظام ومدرعاته، ما يجعله يعتمد على قصف الطيران والمدفعية، بما أن هذا الركام يقطع غالبية الطرقات والشوارع في الأحياء المُحاصرة.
ويخرق النظام، بهجوم قواته على أحياء حمص، اتفاقاً، أو شبه اتفاق، مع مقاتلي المعارضة عُقد قبل نحو شهر، يتضمّن السماح بانسحابهم مع أسلحتهم الثقيلة إلى ريف المحافظة الشمالي، أي إلى تلبيسة والرستن، الخاضعتين لسيطرة قوات المعارضة، ومنْح عفو عام للراغبين منهم بتسليم أنفسهم مع أسلحتهم الفردية، في مقابل عودة أهالي تلك الأحياء إلى منازلهم. وتفيد التقديرات بأن نحو 800 ألف من سكان حمص باتوا اليوم بلا مأوى بعد تهجيرهم، إما إلى حي الوعر في المدينة نفسها، أو إلى خارج حمص، أو خارج سوريا، وذلك من أصل نحو مليونَي نسمة هم سكان المحافظة الثالثة في البلاد بعد دمشق وحلب من حيث عدد السكان.
ويستدعي هذا التهجير، الحديث عن هدف أساسي للحرب الشرسة على حمص، طالما توجّس منه الكثيرون، وهو محاولة النظام إعادة تشكيل الخريطة الديموغرافية للمدينة، والتي وصلت إلى أطرافها، منذ نهاية الستينات من القرن الماضي، موجات هجرة من الريف العلوي، سكنت بعض الأحياء، مثل عكرمة والزهراء، التي تعتبر اليوم مراكز انطلاق لهجمات قوات النظام ضدّ الأحياء المعارضة في المدينة.
وتشير بعض الأرقام، في ظل غياب الإحصاءات الدقيقة، الى أن ربع مساكن مدينة حمص تم تدميرها بالكامل، بالترافق مع مجازر عدة بحق سكانها حصلت منذ انطلاقة الثورة السورية، مثل كرم الزيتون وحي الرفاعي وحي الشماس والحولة وغيرها، فضلاً عن عمليات الاغتصاب الممنهج، بعدما شهدت المدينة أكبر نسبة من عمليات العنف الجنسي، بحسب التقديرات المعارِضة، كل ذلك بهدف دفع سكانها إلى المغادرة، وفق ما يراه المعارضون أيضاً، بالتزامن مع الإحراق المتعمّد للسجلات العقارية في المدينة، بهدف تضييع الملكيات وعدم إتاحة الفرصة لسكانها للمطالبة بحقوقهم مستقبلاً. وقد بدأت عمليات الإحلال السكاني بالفعل منذ فترة، وأُسكنت مجموعات من القرى الموالية للنظام في منازل المهجرين، على ذمّة مصادر المعارضة السورية.
والواقع أن محاولات التغيير الديموغرافي والجغرافي والطبقي في حمص، كانت بوادرها قد ظهرت قبل اندلاع الثورة، من خلال عمليات استملاك الأراضي الواسعة في عهد المحافظ السابق إياد غزال، وفق مشروع "حلم حمص".
وتعتبر حمص هدفاً استراتيجياً لقوات النظام أيضاً، كونها تقع في منتصف الطريق بين دمشق والساحل. ويعرقل وجود قوات للمعارضة فيها التواصل الحيوي للنظام بين هاتين المنطقتين، وخصوصاً إذا ساءت الأحوال واضطر النظام للانسحاب من دمشق باتجاه الساحل، في إطار ما يُحكى عن "خيار الدولة العلوية"، كحل أخير قد يلجأ إليه النظام إذا تمكنت المعارضة من طرده من دمشق.
المشهد في حمص، اليوم، بالغ السوء بالنسبة لقوات المعارضة. فبعد تمكن قوات النظام، بالتعاون مع مقاتلي حزب الله، من السيطرة على ريف حمص الجنوبي منذ سقوط القصير منتصف العام الماضي، ثم سيطرتها على معظم ريفها الشرقي بعد سقوط قلعة الحصن والزارة أخيراً، يبدو النظام مصمماً هذه المرة على تحقيق اختراق كبير في حمص المدينة، لا تبدو إمكانات قوات المعارضة قادرة على منعه، وخصوصاً في ظل الموقف الدولي السلبي، الذي لم ينجح الأسبوع الماضي حتى في إصدار بيان من مجلس الأمن بشأن ما يجري في حمص، واكتفى المجلس، تحت الضغط الروسي، ببيان صحافي لا يسمن ولا يغني من جوع.