كشف قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب نقل السفارة الأميركية إلى القدس جميع عورات النظام السياسي الفلسطيني والعربي. ما يهمنا في هذا السياق هو التحذير من التركيز على الفروع بدلا من الأصول، والسطح لا العمق، والعوارض لا الجذور. فالتركيز على موقع السفارة يكشف عن القصور الكبير والمتواصل في أداء السلطة الفلسطينية وقد يخفي من المشهد السيرورات الأشد عمقا والأطول أمدا. ذلك أن تغيير مكانة القدس وتركيبتها وجغرافيتها أمور متواصلة على قدم وساق ولا تقتصر على موضوع السفارة. والسلطة لا تفعل شيئا يذكر بما يتعلق بالقدس ومنذ سنوات طويلة رغم أن السلطات الإسرائيلية تنفذ سياسات تهويد القدس بشكل حثيث. ولا نعني بهذه السياسات فقط بناء المستوطنات على أرض القدس الشرقية وحولها. نعني أيضا على وجه التحديد تلك السياسات المتعلقة بدفع المواطنين في القدس الشرقية للمغادرة إن كان ذلك بسحب إقامتهم لأسباب تقنية وبيروقراطية. كما نعني منعهم من البناء بشكل قانوني وإثقال كاهلهم وتركيعهم عن طريق مخالفات طائلة على البناء غير المرخص بالإضافة إلى تراكم الديون الهائلة بسبب ضرائب الأملاك. وأخيرا، نعني الإذلال اليومي في الطريق إلى المدرسة والعمل والصلاة من قبل الجيش والمستوطنين.
ليس فقط أن السلطة الفلسطينية لم تقم بشيء يذكر لمساعدة ودعم مواطني القدس على الصمود وتنظيمهم لكي يستطيعوا مواجهة هذه المخططات والاستفزازات في ظروف اقتصادية واجتماعية صعبة. بل إنها قامت ومنذ أوسلو بإضعاف وتفريغ مؤسسات منظمة التحرير من أي مظاهر القوة أو صنع القرار السياسي الفلسطيني. لذا كان رد الرئيس الفلسطيني غير المنتخب على قرار ترامب بدعوة منظمة التحرير للاجتماع للتداول في سبل الرد من باب شر البلية ما يضحك. ذلك أنه يتعين على من يريد استعمال نقاط قوته في وقت الحاجة أو الأزمات أن يعمل بدأب على تطوير وصقل ورعاية نقاط القوة هذه. أما إذا دأب على تهميشها فليس للرئيس الفلسطيني غير المنتخب أن يتوقع أن تكون نقاط القوة هذه حاضرة لديه عند الحاجة.
وإذا كان ترامب قد صدق في شيء فهو أن ما يقوم به هو تحويل الممارسة الفعلية إلى العلنية. ذلك أن مناهضة السلطة الفلسطينية حتى الآن تقتصر على الأمور الرمزية السيادية مثل نقل السفارة أو عدمه. ولكن ما أهمّ من ذلك هو ما يحصل على أرض الواقع من ممارسة يومية. وقد رأينا في السنوات الأخيرة السلطة الفلسطينية تقوم بالتركيز على الأمور الرمزية مثل إعلان الدولة وطلب الانضمام إلى الأمم المتحدة وما تبع ذلك من الانضمام إلى المعاهدات الدولية وموقعة الفيفا، ومؤخرا موضوع استمرار فتح السفارة في واشنطن. وفي كل حالة يكون رد الفعل الإسرائيلي عنيفا لدرجة أن غبار المعركة يعمي الناظر ويظن أن المعركة التي تدور رحاها تتعدى كونها داحس والغبراء. ذلك أن ردود الفعل الإسرائيلية محكومة بالاعتبارات الانتخابية الداخلية نظرا للتوجه اليميني المتزايد. في حين أن التقهقر الفلسطيني المستمر متعلق بغياب أي تفكير استراتيجي، بمعنى غياب تفكير منظم وبعيد الأمد. وكذلك غياب الاستفادة من عِبَر الممارسة والتجربة. فما زال الرئيس الفلسطيني غير المنتخب يردد نفس الأفكار والمقولات منذ السبعينيات ولا يرعوي. وكلما زاد الضعف الفلسطيني والعربي رأى محمود عباس بذلك إقرارا بصحة أفكاره دون أن يضطر إلى تغييرها أو يرى كيف ساهم هو والسلطة بسلب مكامن القوة وزيادة الضعف ضعفا، وبالتالي الوصول إلى ما نحن عليه. ومن إمارات الإفلاس السياسي أن يقوم الفلسطينيون بتعليق أوهامهم على من يجلس على سدّة العرش في البيت الأبيض. فمشكلة الفلسطينيين لم تبدأ بسبب ترامب. ولم تكن أفضل مع أوباما ولم تكن ستكون أفضل حالا في عهد هيلاري كلينتون لو كانت قد فازت على ترامب. سياسة الاستجداء والانتظار لا تجدي نفعا مهما كانت هوية الرئيس الأميركي.
في حقيقة الأمر، تتعدى مشكلة النظام السياسي الفلسطيني موضوع الاستجداء. فالسلطة الفلسطينية في محصلة الأمر هي تعبير عن طبقة كومبرادورية. ونعني بذلك الطبقة الوسيطة ما بين الاحتلال والواقعين تحته، وما بين النظام السياسي والاقتصادي الدولي والمواطنين الفلسطينيين. وهذه النخب الفلسطينية هي جزء من المشكلة وليست طريقا إلى الحلّ. ذلك أنها في نهاية الأمر تلعب دورا بنيويا لا علاقة له بحسن نوايا الأفراد أو قدرتهم الخطابية. ومثل الكثير من نخب العالم الثالث تشبعت هذه النخب بقيم وسياسات الهيمنة النيوليبرالية وتقوم بتنفيذها بسبب اقتناع أو مصلحة شخصية أو ضعف سياسي. وبذلك فإنها تضحي بمصالح الجماهير لصالح النظام السياسي والاقتصادي الدولي المهيمن. وهذه النخب هي نفسها التي تردد مقولات "بدنا نعيش" و"تعبنا من النضال" وتعادي الإرث الثوري النضالي الفلسطيني وتعادي حتى المقاطعة وتنشر الانهزامية. وما كان الإنجاز الأخير في تموز/يوليو الماضي بتراجع الاحتلال عن سياساته الأمنية في محيط الأقصى بسبب نشاط السلطة وإنما بفضل تحرك جماهيري تجاوز مؤسسات السلطة وتجاوز المنظمات الفلسطينية القائمة. فمن ناحية تحولت فتح إلى حركة سلطة تقوم بتوزيع الغنائم وتقمع المعارضة، وتتمرس حركات اليسار بالهامشية، في حين تحاول حركة حماس التمسك بقشة لإنقاذ نفسها وغزة من مزيد من الغرق.
من هنا، فإن المعارك الرمزية مثل تلك المتعلقة بالسفارة الأميركية تكون وهمية إذا لم تتعدّ الرمز إلى محاولة تغيير علاقات القوة بين الطرفين، ولن يتم بذلك بدون تغيير جذري في مبنى وتنظيم الكيان السياسي الفلسطيني. ومن أهم ذلك ازدياد الاعتماد على التحركات الجماهيرية والعودة إلى الناس بدلاً من الاستمرار بتكريس مؤسسات غير ديمقراطية والقمع الأمني. كذلك يجب العمل على تجاوز تقليص النظام الفلسطيني إلى السلطة في رام الله بإعادة بناء المؤسسات الجمعية بما ذلك تمثيل صوت ومصالح اللاجئين. إذا لم يحدث ذلك، فإن الإسرائيليين سينتصرون في كل حالة عندما تقتصر المعركة على الرموز، حتى لو انهزموا. فإذا نجحت السلطة الفلسطينية في معركتها الرمزية دون أن تنجح في المقاومة الفعلية على الأرض في القدس وغيرها، وإذا صفقنا للسلطة الفلسطينية على نصرها الرمزي متناسين دورها المتخاذل المتواصل ودون المطالبة بتغيير النهج العام والمبنى غير الديمقراطي، فإن هذا النصر سيكون، كما قال شاعرنا توفيق زيّاد، شرّا من هزيمة.
ليس فقط أن السلطة الفلسطينية لم تقم بشيء يذكر لمساعدة ودعم مواطني القدس على الصمود وتنظيمهم لكي يستطيعوا مواجهة هذه المخططات والاستفزازات في ظروف اقتصادية واجتماعية صعبة. بل إنها قامت ومنذ أوسلو بإضعاف وتفريغ مؤسسات منظمة التحرير من أي مظاهر القوة أو صنع القرار السياسي الفلسطيني. لذا كان رد الرئيس الفلسطيني غير المنتخب على قرار ترامب بدعوة منظمة التحرير للاجتماع للتداول في سبل الرد من باب شر البلية ما يضحك. ذلك أنه يتعين على من يريد استعمال نقاط قوته في وقت الحاجة أو الأزمات أن يعمل بدأب على تطوير وصقل ورعاية نقاط القوة هذه. أما إذا دأب على تهميشها فليس للرئيس الفلسطيني غير المنتخب أن يتوقع أن تكون نقاط القوة هذه حاضرة لديه عند الحاجة.
وإذا كان ترامب قد صدق في شيء فهو أن ما يقوم به هو تحويل الممارسة الفعلية إلى العلنية. ذلك أن مناهضة السلطة الفلسطينية حتى الآن تقتصر على الأمور الرمزية السيادية مثل نقل السفارة أو عدمه. ولكن ما أهمّ من ذلك هو ما يحصل على أرض الواقع من ممارسة يومية. وقد رأينا في السنوات الأخيرة السلطة الفلسطينية تقوم بالتركيز على الأمور الرمزية مثل إعلان الدولة وطلب الانضمام إلى الأمم المتحدة وما تبع ذلك من الانضمام إلى المعاهدات الدولية وموقعة الفيفا، ومؤخرا موضوع استمرار فتح السفارة في واشنطن. وفي كل حالة يكون رد الفعل الإسرائيلي عنيفا لدرجة أن غبار المعركة يعمي الناظر ويظن أن المعركة التي تدور رحاها تتعدى كونها داحس والغبراء. ذلك أن ردود الفعل الإسرائيلية محكومة بالاعتبارات الانتخابية الداخلية نظرا للتوجه اليميني المتزايد. في حين أن التقهقر الفلسطيني المستمر متعلق بغياب أي تفكير استراتيجي، بمعنى غياب تفكير منظم وبعيد الأمد. وكذلك غياب الاستفادة من عِبَر الممارسة والتجربة. فما زال الرئيس الفلسطيني غير المنتخب يردد نفس الأفكار والمقولات منذ السبعينيات ولا يرعوي. وكلما زاد الضعف الفلسطيني والعربي رأى محمود عباس بذلك إقرارا بصحة أفكاره دون أن يضطر إلى تغييرها أو يرى كيف ساهم هو والسلطة بسلب مكامن القوة وزيادة الضعف ضعفا، وبالتالي الوصول إلى ما نحن عليه. ومن إمارات الإفلاس السياسي أن يقوم الفلسطينيون بتعليق أوهامهم على من يجلس على سدّة العرش في البيت الأبيض. فمشكلة الفلسطينيين لم تبدأ بسبب ترامب. ولم تكن أفضل مع أوباما ولم تكن ستكون أفضل حالا في عهد هيلاري كلينتون لو كانت قد فازت على ترامب. سياسة الاستجداء والانتظار لا تجدي نفعا مهما كانت هوية الرئيس الأميركي.
في حقيقة الأمر، تتعدى مشكلة النظام السياسي الفلسطيني موضوع الاستجداء. فالسلطة الفلسطينية في محصلة الأمر هي تعبير عن طبقة كومبرادورية. ونعني بذلك الطبقة الوسيطة ما بين الاحتلال والواقعين تحته، وما بين النظام السياسي والاقتصادي الدولي والمواطنين الفلسطينيين. وهذه النخب الفلسطينية هي جزء من المشكلة وليست طريقا إلى الحلّ. ذلك أنها في نهاية الأمر تلعب دورا بنيويا لا علاقة له بحسن نوايا الأفراد أو قدرتهم الخطابية. ومثل الكثير من نخب العالم الثالث تشبعت هذه النخب بقيم وسياسات الهيمنة النيوليبرالية وتقوم بتنفيذها بسبب اقتناع أو مصلحة شخصية أو ضعف سياسي. وبذلك فإنها تضحي بمصالح الجماهير لصالح النظام السياسي والاقتصادي الدولي المهيمن. وهذه النخب هي نفسها التي تردد مقولات "بدنا نعيش" و"تعبنا من النضال" وتعادي الإرث الثوري النضالي الفلسطيني وتعادي حتى المقاطعة وتنشر الانهزامية. وما كان الإنجاز الأخير في تموز/يوليو الماضي بتراجع الاحتلال عن سياساته الأمنية في محيط الأقصى بسبب نشاط السلطة وإنما بفضل تحرك جماهيري تجاوز مؤسسات السلطة وتجاوز المنظمات الفلسطينية القائمة. فمن ناحية تحولت فتح إلى حركة سلطة تقوم بتوزيع الغنائم وتقمع المعارضة، وتتمرس حركات اليسار بالهامشية، في حين تحاول حركة حماس التمسك بقشة لإنقاذ نفسها وغزة من مزيد من الغرق.
من هنا، فإن المعارك الرمزية مثل تلك المتعلقة بالسفارة الأميركية تكون وهمية إذا لم تتعدّ الرمز إلى محاولة تغيير علاقات القوة بين الطرفين، ولن يتم بذلك بدون تغيير جذري في مبنى وتنظيم الكيان السياسي الفلسطيني. ومن أهم ذلك ازدياد الاعتماد على التحركات الجماهيرية والعودة إلى الناس بدلاً من الاستمرار بتكريس مؤسسات غير ديمقراطية والقمع الأمني. كذلك يجب العمل على تجاوز تقليص النظام الفلسطيني إلى السلطة في رام الله بإعادة بناء المؤسسات الجمعية بما ذلك تمثيل صوت ومصالح اللاجئين. إذا لم يحدث ذلك، فإن الإسرائيليين سينتصرون في كل حالة عندما تقتصر المعركة على الرموز، حتى لو انهزموا. فإذا نجحت السلطة الفلسطينية في معركتها الرمزية دون أن تنجح في المقاومة الفعلية على الأرض في القدس وغيرها، وإذا صفقنا للسلطة الفلسطينية على نصرها الرمزي متناسين دورها المتخاذل المتواصل ودون المطالبة بتغيير النهج العام والمبنى غير الديمقراطي، فإن هذا النصر سيكون، كما قال شاعرنا توفيق زيّاد، شرّا من هزيمة.