مصطفى غورو يطعم ديغول الكبّة

21 سبتمبر 2014

شارع مار إلياس بداية القرن العشرين (أ.ف.ب)

+ الخط -

في زيارتي بيروت، أخيراً، وجدت معالمها قد تغيّرت، وكنت قد زرتها في 1975 ومكثت فيها ثلاثة أشهر. تركتها حينما اشتدّت فيها الحرب الأهلية. وبعد عامين، قصدت باريس التي أقمت فيها نحو ثلاثة عقود. تغيّرت معالم بيروت، لكن روحها النابضة ظلّت كما هي، ولو أن شارع الحمراء الذي كان يشبه الشانزليزيه تدهور وامتلأت أرصفته بشحاذين ومتسكعين وباعة اليانصيب الوطني والمهجرين.

في أثناء مرورنا في شارع شارع مار إلياس ـ المصيطبة، نبّهني الصديق الشاعر أحمد فرحات، قائلاً: أنت يا مَن تحب فرنسا، ارفع رأسك، وانظر إلى هذه اللافتة الرخامية التي تعلو بناية قديمة، كُتب عليها: "هنا سكن المقدم شارل ديغول بين نوفمبر/ تشرين الثاني 1929 ويناير/ كانون الثاني 1932".

روى لي قصة طريفة عن رجلٍ اسمه مصطفى غورو، كان مرافقاً قديماً للجنرال غورو، الذي عيّنته فرنسا مفوّضاً سامياً لها في بيروت، في 8 أكتوبر/ تشرين الأول عام 1919. لذلك لقّبه اللبنانيون مصطفى غورو. وبعد رحيل غورو، صار بلا عمل محدد، ويشتغل في أعمال متنوعة. كان مولعاً بفرنسا، وعندما علم بإقامة شارل ديغول في العنوان المذكور، هرع إلى التعرف عليه، وتقديم نفسه باعتباره المرافق القديم للجنرال غورو، ما زاد في حظوته لدى الجنرال ديغول. وظل مصطفى غورو يعيش على ذكريات لقائه بالجنرال، ويروي عنه قصصاً واقعية ومتخيّلة. ولديغول مكانة خاصة لدى لبنانيين كثيرين، يحبّونه، ويستمعون لكل شاردة وواردة عنه، لأنه دعا إلى مقاومة الاحتلال من منظور حق الشعوب في الحرية والاستقلال، ويقدّرون مواقفه، لا سيما عام 1968 في أثناء تدمير كوماندوز إسرائيلي 13 طائرة مدنية في مطار بيروت في 28 ديسمبر/ كانون الأول ذلك العام. وقد منع تصدير السلاح إلى إسرائيل، ورفض تسليمها 50 طائرة ميراج، كان سبق أن دفعت ثمنها، لأنه كان يؤمن بأن لبنان نموذج للتعايش بين الثقافات، والعيش المشترك بين الإسلام والمسيحية، وجسر بين الشرق والغرب.

قال مصطفى غورو لأصحابه مرّة: أطعمتُ شارل ديغول الكبّة، لكنه قبل أن يتناولها، وهو يتردد، سألني: هل أنت متأكد أنني لا أتسّمم إذا أكلت هذه الكبة المقلية بالزيت؟ فأجابه مصطفى: كيف يا حضرة الجنرال، إنها مقلية بالزيت الذي أحضرته زوجتي، وليس في المطاعم الرديئة. وأكمل مصطفى حديثه: وهكذا، تناول الجنرال من هذه الكبة ثلاثة أقراص، وتلذّذ بطعمها، ودُهش لطريقة طبخها وتركيبها.

وقد طلب مصطفى الانتساب إلى الجيش الحرّ الذي يقوده الجنرال شارل ديغول، لأن فرنسا كانت تحت حكم الجنرال بيتان الموالي للألمان النازيين، وظل يفخر بأنه مناضل، جنباً إلى جنب، مع ديغول.

مع استمرار عيش العائلات في أبنيتها، وافتتاح المدارس، ونشوء صناعاتٍ يدوية وحرفية، ضمن اللغة الفرنسية التي كانت سائدة بقوة يومها. وساعدت في تعزيز حضورها لغةً رئيسية زيارات ديغول لبنان، وقضائه وقتاً طويلاً مع المندوب السامي أثناء الانتداب الفرنسي. وظل الناس يتذكرون صورة الزائر الغريب، وما زالت صورته في ذهن مصطفى غورو، وهو يصفه بأنه "كان طويل القامة، يتمتع بكاريزما خاصة، ولا يخلو من المرح وروح الدعابة، وكان يفرض احترامه بين المحيطين به. ولا يزال القدماء القلائل من سكان ذلك الحيّ يروون عنه القصص والحكايات".

ومن المصادفة، أن في الشارع نفسه، وفي البناية نفسها، مطعم صغير منزوٍ يقدم أقراص الكبّة، لا يتردد عليه زبائن كثيرون، وفاتت صاحبه روح الترويج التي يجيدها اللبنانيون بأن يطلق على مطعمه "كبّة ديغول". لو فعل، لسبق أية شركة إعلانية في الترويج لمطعمه، ولاكتظّ الزبائن في طوابير طويلة ليتذوقوا كبّة مصطفى غورو التي قدمها إلى الجنرال شارل ديغول مرّة، وربما فاقت شهرة شارع مار إلياس ـ المصيطبة شهرة شارع الحمراء.

3442CCAB-1913-4DB8-8A09-49D66768B42E
شاكر نوري

إعلامي وروائي ومترجم عراقي، يعمل في الصحافة منذ 1970. له ثماني روايات. يحمل البكالوريوس والماجستير في الأدب الأنجليزي والدكتوراه في السينما والمسرح من السوربون، أقام في باريس 27 عاماً. نال جائزة ابن بطوطة لأدب اليوميات.