07 نوفمبر 2024
مصر تتحدّث مع نفسها
ذهب الوفد القضائي المصري إلى روما، لمناقشة قضية مقتل الباحث الإيطالي، جوليو ريجيني، في مصر، لكنه عاد بخفي حنين، بعد إعلان إيطاليا قطع التعاون معه، وسحب سفيرها من القاهرة للتشاور. أحد أسباب الحنق الإيطالي على الوفد كان تقديم الأخير ملفاً من ألفي ورقة باللغة العربية فقط، منها عشرات الصفحات المكتوبة بالعامية المصرية، إلى درجة أن المترجمين في الاجتماعات بين الجانبين عجزوا عن ترجمتها بدقة.
للوهلة الأولى، يبدو هذا السلوك من الوفد المصري غريباً، فقد كان من المفترض ترجمة الملف إلى الإنجليزية، وأن يكون هناك عضو واحد على الأقل من أعضاء الوفد يتحدث الإنجليزية. لكن، لا هذا ولا ذاك حدث. حتى عندما عقد رئيس الوفد القضائي المصري مؤتمراً صحافياً عقب عودته إلى مصر، طلب وجود مترجم فوري لأسئلة الصحافيين الأجانب، في مشهد معبّر عن "أزمة تواصل" بين النظام المصري والعالم.
في عهد محمد مرسي، أشبعه الإعلام سخرية ونقداً بحجة عدم معرفته للغة الإنجليزية، مستغلين حلقة ساخرة لبرنامج باسم يوسف، عرض فيها مقطعاً لمرسي، وهو يداعب الحضور في أثناء زيارة له إلى ألمانيا، لتظهر نكتة "دونت ميكس"، ويقتنع قطاع من المصريين بأن مرسي لا يجيد الحديث بالإنجليزية، على الرغم من أن باسم يوسف نفسه علق بعد البرنامج نافياً ذلك، مؤكداً أن مرسي يتحدث الإنجليزية بطريقة جيدة جداً، وأنه كان يداعب الحضور عبر خلط كلماتٍ عربية بإنجليزية. لكن الإعلام المصري قدّم هذه المعطيات لإعطاء صورة عن مرسي، باعتباره محدود القدرات والإمكانات ولا يصلح رئيساً، بغض النظر عن سياساته ومدى نجاحها أو فشلها.
جاء عبد الفتاح السيسي بعد مرسي، لنجده لا يستطيع تكملة جمل معدودة بالإنجليزية، فقد استأذن محاوريه من وكالة رويترز للحديث بالعربية بعد دقيقة فقط من محاولته الحديث بالإنجليزية، ولم نر أحداً من الإعلام المصري الذي كان مهتماً باللغات يتناول هذا الأمر على الإطلاق. وليس شرطاً أن يكون رئيس أي دولة يجيد التحدث بالإنجليزية، فهناك زعماء دول عديدون لا يجيدون ذلك، لكن عدم معرفة اللغات الأجنبية لدى المسؤولين المصريين بعد الانقلاب امتد إلى وظائف تتطلب تلك الإجادة بصورة أساسية.
ففي أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، قال رئيس تحرير وكالة أنباء الشرق الأوسط المصرية
الرسمية، علاء حيدر، للصحافيين الأجانب إنه لو كان مكان السيسي لقتل مليون مصري من أجل أن يعيش الـ90 مليون، على حد وصفه، اللافت أنه قال هذا بالعربية، وبجواره مترجم، أي أنه لا يجيد الإنجليزية على الرغم من منصبه، وهي تصريحات تتشابه مع ما قاله رئيس الوزراء الأسبق، حازم الببلاوي، عندما رأى أنه، أحياناً، تكون هناك حاجة لارتكاب "أعمال وحشية"، قاصداً مذبحة ميدان رابعة. لكن، إحقاقاً للحق، صرح بذلك بلغة إنجليزية سليمة.
في بداية الانقلاب، فشلت السلطات المصرية والإعلام المصري في تسويق فكرة الثورة الشعبية إلى العالم، فبدأت سلطة الانقلاب في توجيه خطابها إلى الغرب، لإقناعهم بفكرة الثورة، وأرسلت وفوداً وشخصيات عامة إلى أوروبا والولايات المتحدة لهذا الغرض. واشترطت الفضائيات المصرية في الحملة، على الرغم من أنها قنوات غير مشاهدة في أوروبا والولايات المتحدة من الأساس. وشاهد الجمهور المصري عدة إعلانات مترجمة للإنجليزية موجهة للغرب، تؤكد أن ما حدث في مصر ثورة وليس انقلاباً، وتتهم "الإخوان المسلمين" بالإرهاب والمسؤولية عن أعمال العنف، وخصصت قنوات قناة موازية فيها ترجمة فورية لبرامجها إلى الإنجليزية، وهي مجهودات لم تؤد إلى نتائج تذكر.
أدى هذا الفشل إلى شيوع خطاب المؤامرة، وأجواء معاداة الأجانب والتحريض عليهم، وأصبح أي شخص يتحدث لغة غير العربية في مصر هدفاً للتنكيل به، سواء من الشرطة أو "المواطنين الشرفاء". وكان هذا المناخ امتداداً لما قام به الإعلام الموالي للرئيس المخلوع، حسني مبارك، في أثناء ثورة يناير، عندما تحدث أحد المجهولين لقناة النيل الإخبارية، زاعماً أن الموجودين في ميدان التحرير يتحدثون "إنجليش لانجوتش"، باعتبار ذلك دليلاً دامغاً على أن الثورة مؤامرة أجنبية.
أدت حملات إرهاب الأجانب إلى وفاة مواطن فرنسي، نتيجة تعرّضه للضرب المبرح على يد سجناء مصريين آخرين عام 2013، وكذلك مواطن أميركي توفي في أثناء احتجازه في أحد السجون المصرية. وانتشرت أنباء القبض على الأجانب في الشارع المصري، نتيجة شك المصريين فيهم بعد الحملة الإعلامية ضدهم، منهم ألان غريش، رئيس تحرير صحيفة لوموند ديبلوماتيك الذي أوقفته الشرطة المصرية في نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2014، في أثناء جلوسه مع صحافيتين مصريتين في مقهى، نتيجة شك إحدى المصريات فيهم، لأنهم يتحدثون في "السياسة" وبلغة أجنبية، وهو ما كان كافياً بالنسبة إليها لتقوم بالإبلاغ عنهم.
نتيجة أخرى لذلك الفشل، استغلال الإعلام المصري عدم معرفة نسبة كبيرة من المصريين اللغات الأجنبية، للقيام بتحريف تغطيات الإعلام الأجنبي عن الأوضاع في مصر. ولا أدل على ذلك من الفضيحة التي تعرضت لها صحيفة الأهرام العريقة، عندما حرّفت ترجمة تقرير صحيفة نيويورك تايمز الأميركية عن خطاب السيسي أمام الأمم المتحدة، وكذلك المترجم الذي قام بتحريف كلام سائحة روسية في شرم الشيخ، بعد أن سألها مراسل أحد البرامج الفضائية عن رأيها في قرار الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، إجلاء الرعايا الروس من مصر، عقب سقوط الطائرة الروسية في سيناء، فبينما قالت السائحة إنها ستنفذ قرار بوتين، جاءت الترجمة على لسان المترجم بأن "بوتين اتخذ قراراً سياسياً، أما نحن فمرتاحون هنا في شرم الشيخ".
لم يكن غريباً والحال كهذا أن يذهب السيسي إلى ألمانيا العام الماضي، وبرفقته إعلاميون مفترض أن تكون مهمتهم تغطية الزيارة، لكنهم أنجزوا حلقات تلفزيونية في ستوديوهات مغلقة، تقتصر عليهم، من دون استضافة مسؤول ألماني واحد للحديث عن الزيارة، واكتفت الأذرع الإعلامية بحلقة مجمعة لمذيعي السيسي، للإشادة بالزيارة، والحصول على مداخلات من مسؤولين مصريين جاءوا معهم على الطائرة نفسها! ووصل الجهل وعدم القدرة على التواصل مع العالم الخارجي إلى مستوياتٍ مضحكةٍ، عندما ذهب وفد مرافق للسيسي إلى ندوة مع حزب الخضر الألماني متأخرين نصف ساعة عن الموعد، ومتصرفين بهمجية وبلغة إنجليزية ركيكة جداً، لم يفهم أحد منها شيئاً حتى اضطرت رئيسة الحزب إلى إلغاء اللقاء.
في أواخر عام 2013، خرج الممثل محمد صبحي، ليطالب السيسي بأن "يغلق مصر على المصريين" على النمط الكوري الشمالي، ويبدو أن السيسي استجاب، وأصبحت مصر تواجه العزلة على جميع المستويات، وتفشل في التواصل مع العالم الخارجي بأي صورة، كأنها "تتحدث مع نفسها".
للوهلة الأولى، يبدو هذا السلوك من الوفد المصري غريباً، فقد كان من المفترض ترجمة الملف إلى الإنجليزية، وأن يكون هناك عضو واحد على الأقل من أعضاء الوفد يتحدث الإنجليزية. لكن، لا هذا ولا ذاك حدث. حتى عندما عقد رئيس الوفد القضائي المصري مؤتمراً صحافياً عقب عودته إلى مصر، طلب وجود مترجم فوري لأسئلة الصحافيين الأجانب، في مشهد معبّر عن "أزمة تواصل" بين النظام المصري والعالم.
في عهد محمد مرسي، أشبعه الإعلام سخرية ونقداً بحجة عدم معرفته للغة الإنجليزية، مستغلين حلقة ساخرة لبرنامج باسم يوسف، عرض فيها مقطعاً لمرسي، وهو يداعب الحضور في أثناء زيارة له إلى ألمانيا، لتظهر نكتة "دونت ميكس"، ويقتنع قطاع من المصريين بأن مرسي لا يجيد الحديث بالإنجليزية، على الرغم من أن باسم يوسف نفسه علق بعد البرنامج نافياً ذلك، مؤكداً أن مرسي يتحدث الإنجليزية بطريقة جيدة جداً، وأنه كان يداعب الحضور عبر خلط كلماتٍ عربية بإنجليزية. لكن الإعلام المصري قدّم هذه المعطيات لإعطاء صورة عن مرسي، باعتباره محدود القدرات والإمكانات ولا يصلح رئيساً، بغض النظر عن سياساته ومدى نجاحها أو فشلها.
جاء عبد الفتاح السيسي بعد مرسي، لنجده لا يستطيع تكملة جمل معدودة بالإنجليزية، فقد استأذن محاوريه من وكالة رويترز للحديث بالعربية بعد دقيقة فقط من محاولته الحديث بالإنجليزية، ولم نر أحداً من الإعلام المصري الذي كان مهتماً باللغات يتناول هذا الأمر على الإطلاق. وليس شرطاً أن يكون رئيس أي دولة يجيد التحدث بالإنجليزية، فهناك زعماء دول عديدون لا يجيدون ذلك، لكن عدم معرفة اللغات الأجنبية لدى المسؤولين المصريين بعد الانقلاب امتد إلى وظائف تتطلب تلك الإجادة بصورة أساسية.
ففي أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، قال رئيس تحرير وكالة أنباء الشرق الأوسط المصرية
في بداية الانقلاب، فشلت السلطات المصرية والإعلام المصري في تسويق فكرة الثورة الشعبية إلى العالم، فبدأت سلطة الانقلاب في توجيه خطابها إلى الغرب، لإقناعهم بفكرة الثورة، وأرسلت وفوداً وشخصيات عامة إلى أوروبا والولايات المتحدة لهذا الغرض. واشترطت الفضائيات المصرية في الحملة، على الرغم من أنها قنوات غير مشاهدة في أوروبا والولايات المتحدة من الأساس. وشاهد الجمهور المصري عدة إعلانات مترجمة للإنجليزية موجهة للغرب، تؤكد أن ما حدث في مصر ثورة وليس انقلاباً، وتتهم "الإخوان المسلمين" بالإرهاب والمسؤولية عن أعمال العنف، وخصصت قنوات قناة موازية فيها ترجمة فورية لبرامجها إلى الإنجليزية، وهي مجهودات لم تؤد إلى نتائج تذكر.
أدى هذا الفشل إلى شيوع خطاب المؤامرة، وأجواء معاداة الأجانب والتحريض عليهم، وأصبح أي شخص يتحدث لغة غير العربية في مصر هدفاً للتنكيل به، سواء من الشرطة أو "المواطنين الشرفاء". وكان هذا المناخ امتداداً لما قام به الإعلام الموالي للرئيس المخلوع، حسني مبارك، في أثناء ثورة يناير، عندما تحدث أحد المجهولين لقناة النيل الإخبارية، زاعماً أن الموجودين في ميدان التحرير يتحدثون "إنجليش لانجوتش"، باعتبار ذلك دليلاً دامغاً على أن الثورة مؤامرة أجنبية.
أدت حملات إرهاب الأجانب إلى وفاة مواطن فرنسي، نتيجة تعرّضه للضرب المبرح على يد سجناء مصريين آخرين عام 2013، وكذلك مواطن أميركي توفي في أثناء احتجازه في أحد السجون المصرية. وانتشرت أنباء القبض على الأجانب في الشارع المصري، نتيجة شك المصريين فيهم بعد الحملة الإعلامية ضدهم، منهم ألان غريش، رئيس تحرير صحيفة لوموند ديبلوماتيك الذي أوقفته الشرطة المصرية في نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2014، في أثناء جلوسه مع صحافيتين مصريتين في مقهى، نتيجة شك إحدى المصريات فيهم، لأنهم يتحدثون في "السياسة" وبلغة أجنبية، وهو ما كان كافياً بالنسبة إليها لتقوم بالإبلاغ عنهم.
نتيجة أخرى لذلك الفشل، استغلال الإعلام المصري عدم معرفة نسبة كبيرة من المصريين اللغات الأجنبية، للقيام بتحريف تغطيات الإعلام الأجنبي عن الأوضاع في مصر. ولا أدل على ذلك من الفضيحة التي تعرضت لها صحيفة الأهرام العريقة، عندما حرّفت ترجمة تقرير صحيفة نيويورك تايمز الأميركية عن خطاب السيسي أمام الأمم المتحدة، وكذلك المترجم الذي قام بتحريف كلام سائحة روسية في شرم الشيخ، بعد أن سألها مراسل أحد البرامج الفضائية عن رأيها في قرار الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، إجلاء الرعايا الروس من مصر، عقب سقوط الطائرة الروسية في سيناء، فبينما قالت السائحة إنها ستنفذ قرار بوتين، جاءت الترجمة على لسان المترجم بأن "بوتين اتخذ قراراً سياسياً، أما نحن فمرتاحون هنا في شرم الشيخ".
لم يكن غريباً والحال كهذا أن يذهب السيسي إلى ألمانيا العام الماضي، وبرفقته إعلاميون مفترض أن تكون مهمتهم تغطية الزيارة، لكنهم أنجزوا حلقات تلفزيونية في ستوديوهات مغلقة، تقتصر عليهم، من دون استضافة مسؤول ألماني واحد للحديث عن الزيارة، واكتفت الأذرع الإعلامية بحلقة مجمعة لمذيعي السيسي، للإشادة بالزيارة، والحصول على مداخلات من مسؤولين مصريين جاءوا معهم على الطائرة نفسها! ووصل الجهل وعدم القدرة على التواصل مع العالم الخارجي إلى مستوياتٍ مضحكةٍ، عندما ذهب وفد مرافق للسيسي إلى ندوة مع حزب الخضر الألماني متأخرين نصف ساعة عن الموعد، ومتصرفين بهمجية وبلغة إنجليزية ركيكة جداً، لم يفهم أحد منها شيئاً حتى اضطرت رئيسة الحزب إلى إلغاء اللقاء.
في أواخر عام 2013، خرج الممثل محمد صبحي، ليطالب السيسي بأن "يغلق مصر على المصريين" على النمط الكوري الشمالي، ويبدو أن السيسي استجاب، وأصبحت مصر تواجه العزلة على جميع المستويات، وتفشل في التواصل مع العالم الخارجي بأي صورة، كأنها "تتحدث مع نفسها".