مصر التي لا تغيب عن الخاطر

23 مايو 2015
+ الخط -
كان الظن، قبل وصول الفريق عبد الفتاح السيسي إلى سدة الرئاسة في مصر، أن الأحكام المفرطة في تعسفها التي كانت تصدر بحق معارضين لقانون منع التظاهر، أو متظاهرين، أو أطراف سياسية لثورة 25 يناير، سوف تُطوى، وتتم تخلية سبيل المحتجزين، ما إن يباشر العهد الجديد مهامه، بما يوفر فرصة لإزالة الاحتقان الشديد، ويضمن جاذبية للحكم. لكن شيئاً من هذه التقديرات لم يتحقق. وحافظت الأحكام على وتيرتها التصاعدية والقصوى، وهو أمر أذهل قوى دولية نافذة، كما خيب آمال قوى سياسية مصرية، من دون أن تتمكن هذه القوى من التعبير عن مكنوناتها، إلا في مرات نادرة منها في لقاء السيسي مع كتّاب وصحفيين أحاطوه بوجود مظاليم في السجون، فوعدهم خيراً، بعد أن طلب قائمة بأعداد هؤلاء وأسمائهم. حتى الآن، لم تضع السلطات المصرية، ولم تنفذ تقليداً يقوم على تخلية سبيل معتقلين سياسيين، باستثناء رموز من عهد حسمي مبارك. وهذه سابقة لا نظير لها في تاريخ الحياة السياسية المصرية، منذ أزيد من اربعة عقود، على الرغم من أن المحروسة ترفل بثورتين لا واحدة، كما دأب الإعلام الرسمي على التصريح.
سارعت أطراف أميركية وأوروبية، في الأيام الأخيرة، إلى استهوال الإمعان في التهيئة لإصدار أحكامٍ قد تصل إلى الإعدام بالجملة، ذلك أن القناعة الذهنية العامة في العالم هي أن مصر، أياً كان نظام الحكم فيها، وأياً كانت الملاحظات عليه، ليست كوريا الشمالية ولا إيران. وهكذا، فإن المضي في استسهال إصدار الأحكام القصوى، والمسيسة بصورة صارخة، يثير الشعور بأن هذه ليست مصر التي يعرفها الجميع.
لا ريب أنه يسوء أي مواطن مصري أن يمتنع مسؤول أوروبي عن استقبال رئيس بلاده، وهو يقوم بزيارة رسمية إلى ذلك البلد الأوروبي (ألمانيا، حيث امتنع رئيس البرلمان عن استقبال السيسي، وعبّر عن ذلك في بيان للإعلام). كما يسوء أي مواطن عربي أن يتعرض رئيس أكبر بلد عربي إلى مثل هذا الموقف، وذلك من الناحية الرمزية المجردة (إذا كان عالم السياسة يقبل هذا التجريد!)، غير أنه بقليل من التدقيق في هذا الموقف يتبين أن الباعث عليه هو احترام الشعب المصري وحقه في الحرية والحياة السياسية الطبيعية، وتسجيل تحفظ قوي على نهج سياسي يلحق ضرراً جسيما بحقوق أساسية لعشرات ملايين المصريين، وليس المقصود المساس بالرئاسة المصرية، علاوة على أن امتناع رأس السلطة التشريعية أو المعارضة الحزبية عن استقبال ضيف رسمي، هو من التقاليد السائدة في الديمقراطيات الغربية، إذا ما كان هناك تحفظ جوهري على النهج الداخلي الذي يتبعه الضيف في بلاده وحيال شعبه.
ليست هذه الواقعة الوحيدة من نوعها في تسجيل التحفظات، فالمنظمات الحقوقية والإنسانية في العالم لا تتوانى ولا تتوقف عن توجيه نقد مرير للعسف الذي بات يطبع الحياة العامة في مصر، إلى درجة تكاد تختفي فيها الأحزاب والقوى السياسية عن ممارسة دورها، والبرهنة على وجودها واستقلالها عن السلطة التنفيذية، كما تضمحل حرية التعبير التي سادت مصر منذ أوائل سبعينات القرن الماضي، وبلا توقف، ويحل محلها الاجتهاد والتباين تحت سقف منخفض. وبدل ممارسة حياة سياسية طبيعية تحت الضوء وفي المنابر الاجتماعية والنقابية والحزبية، يلجأ كثيرون إلى شبكات التواصل الاجتماعي، لتدوين تحفظاتهم ومطالبهم بأساليب مختلفة ومسميات بلا حصر.
من حسن الطالع أن السلطات في القاهرة لا تتحدث عن مؤامرة كونية ترمي إلى النيل من العهد القائم، وإن كانت تتحدث عن أصابع إخوانية في كل مكان من العالم تقريبا، غير أن الصمود السلبي أمام موجات الانتقاد لا يثمر شيئاً ذا بال في النهاية، إذ أن افتقاد لغة مشتركة مع العالم، وإدارة الظهر لمعايير عالمية في الديمقراطية وسلامة الحياة السياسية، لا يعتبر إنجازاً، بل هو وصفة نموذجية للانزلاق نحو العزلة. وها هي دولة كبرى، مثل روسيا، تتعرض لمثل هذه النتيجة، والمطلوب استخلاص العبر من الآخرين، لا استيراد نهج خاطئ منهم. ومصر تعاني من صعوبات اقتصادية، ومن افتقاد رؤى ذاتية للتنمية الشاملة، وليس من الحكمة في شيء مفاقمة أزماتها بتشديد الاحتقان السياسي الداخلي، ومنع سواد الناس من التفكير والتعبير وبث الرعب في صفوفهم.
النهج الذي يستسهل التهديد بإصدار أحكام الإعدام يهدر معايير العدالة ومقتضياتها، ويبث انطباعا عاما وكاسحاً بأن ثمة احكام سياسية مسبقة ذات منحى استئصالي، وكما هو الحال في الأنطمة الشمولية، وهو ما يضع صورة القضاء المصري والجسم القضائي تحت طائلة الحرج الشديد أمام أنظار الجمهور، وكذلك في عيون العالم، بما يهدد التراث العريق والمكانة الرفيعة للسلطة القضائية، وهي ركيزة أساسية لاستقرار أركان الدولة المصرية، بصرف النظر عن النظام القائم. لهذا، تبدو مصر تنوء تحت أحكام الطوارىء، وتجميد القانون الطبيعي وكأن ثورة تستحق اسمها لا تقود سوى إلى التقهقر إلى الوراء نصف قرن وأكثر! حيث يتم استنساخ جوانب سلبية من التجربة الناصرية ومضاعفة تلك الجوانب، وفي ظرف مختلف بصورة شبه كلية عن ظروف خمسينات القرن الماضي وستيناته.
وحين يستشعر مصريون وعرب وأصدقاء لمصر، في أي مكان في العالم، أن هذه ليست مصر التي يخبرونها، وتجذب أرواحهم إليها، فإنهم لا يجانبون الصواب، ولا يفتئتون على أحد. فحتى في عهد أنور السادات، لم تكن الحياة العامة أبداً تتسم بالخواء السياسي، كما هي عليه في السنتين الأخيرتين، على الرغم مما تزخر به مصر من خبرات وكفاءات ومواهب على مختلف الصعد. والأهم من ذلك ما تكتنزه من خبرات ومثالات مواجهة عسف النظام السابق وتجربة ثورة 25 يناير الشعبية. لم تفقد الأجسام الاجتماعية والثقافية والحزبية ما تملكه فجأة، ولا هي تخلت عن وعيها، لكنها لا شك في حال من التأمل العميق حيال هذه المستجدات، وبالذات، إزاء تزييف الوعي ومغالطة الواقع والوقائع عبر خطاب سياسي رسمي، مفاده وفحواه: إنسوا 25 يناير، فالثورة تؤدي إلى الوقوع في براثن الإرهاب، وكل معارضة تخدم الإرهاب، وتصب في طاحونته! وهو خطاب مقترن بأداء تسلطي يثير العجب، ويجيب عنه من أطلقوا جُماع طاقتهم في الثورة وعقدوا الآمال عليها، بالصمت العميق. عسى أن لا يكون صمتاً مديداً يُنسي أصحابه، لا سمح الله، نعمة النطق عما يجول في العقل والضمير.