نهاية بائسة لـ"زعيمة الأمّة" في بنغلادش
أمضت الشيخة حسينة واجد حياتها السياسية الحافلة وهي تطمح أن تكون زعيمة للأمّة البنغالية، لأنّها ابنة مجيب الرحمن، الأب المؤسس لجمهورية بنغلادش المستقلّة عن باكستان. على أنّ مزيجاً من النجاح والإخفاق طبع مسار حياتها السياسية، فيما شكّل اغتيال والدها، وعددٍ من أفراد أسرتها، في العام 1975 (بعد أربع سنوات من الاستقلال)، صدمةً عاطفيةً وفكريةً للشابة حسينة آنذاك، وهي في ربيعها الـ28، ومنذ ذلك التاريخ، آلت إليها زعامة حزب رابطة عوامي، الذي أسّسه والدها، وشقّت طريقها نحو عضوية البرلمان ورئاسة الحكومة، متمتعةً بنفوذ شعبي كبير، فيما تلقّت الدرس السياسي الأول، وفحواه أنّ عالم السياسة مُفعمٌ بقسوةٍ شديدةٍ ذهب ضحيتها والدها وأفراد أسرتها، والدها الذي لم يشفع له مع انقلابيَن عسكريَّين أنّه أبٌ للأمّة البنغالية.
منذئذٍ، اتسمّت شخصيتها بالحذر الشديد، ليس تجاه طموحات العسكريين فقط، ولكن أيضا إزاء كلّ اعتراض أو معارضة لسياستها، وهو ما تجلّى أخيراً في تعاملها مع حركة الاحتجاجات الطلابية على توزيع حصص التوظيف الحكومي، إذ بادرت إلى قمع التظاهرات بغير رحمة، وأوقعت الشرطةُ المؤتمرة بأوامرها مئاتٍ من الضحايا والمصابين، ما تسبب في إلهاب الاحتجاجات واندفاع المحتجين نحو مقرّ الرئاسة، ما دفعها إلى اتخاذ قرار فجائي بالاستقالة ومغادرة البلاد على وجه السرعة إلى الهند، تاركةً البلاد في حومة من التوتّر واللايقين، ومن غير أن تخاطب شعبها ببضع كلمات تُبرّر فيها تفضيلها الاستقالة على إعادة النظر في قرار التوظيف. وواقع الحال أنّ ظاهرة استقالة المسؤول الأول ومغادرته شائعة في باكستان، وفي بنغلادش، وفي دول أخرى في الأميركيتَين اللاتينية والوسطى، ومن أبرز نماذجها عربياً ملك مصر فاروق، ورئيس تونس زين العابدين بن علي.
دفع مخزون الريبة حسيبة واجد إلى اتهام الخبير المصرفي الذي أسّس بنك الفقراء، محمّد يونس، بالفساد من غير أدّلة
أمّا لماذا اختارت الهند منفىً لها، فيعود ذلك لإقامتها بعد الانقلاب على أبيها مع شقيقتها الناجية ريحانة نحو ستّ سنوات في تلك البلاد، في استضافةٍ من حكومة أنديرا غاندي، وقد تنامت علاقتها مع الهند على مرّ السنين، وصولاً إلى حكومة ناريندرا مودي، وتجمعها بالزعيم الهندي هذا النظرة السالبة إلى باكستان، فالشيخة حسينة ظلّت تناصب العداء المكتوم لباكستان، التي ناصبت بدورها البنغاليين العداء، واعتقلت والدها بضع سنوات قبل الاستقلال، كما رأت فيها نصيراً لمتشدّدين إسلاميين في بلادها، ما جعلها تواظب على الانحياز إلى الهند، قافزة بذلك عن أنّها مسلمة تمثّل شعباً مسلماً، فيما تتعرّض الأقلية المسلمة الكبيرة في الهند إلى الاضطهاد، لأسباب دينية، ومن حكومة تُجاهر بالتغليب الديني ضدّ بقية المكوّنات. وكانت الهند قد سارعت إلى الاعتراف بجمهورية بنغلادش بعد انفصالها عن باكستان، وأبرمت معها اتفاقيات عديدة، وذلك انتقاماً من باكستان التي انفصلت عن الهند في 1947، وظلّت علاقات البلدين تتنامى رغم التقلّبات السياسية في دكا.
اعتبرتها مراجع عديدة بأنّها تقع في صدارة مائة شخصية نسائية قيادية في عالمنا، وحازت جوائز، منها جائزة فيليكس هوفويت بوانيي للسلام من "يونسكو" لعام 1998، وجائزة الأم تريزا من مجلس السلام لعموم الهند عام 1998، وجائزة غاندي لعام 1998 من مؤسّسة المهاتما غاندي في النرويج، وإضافة إلى نيلها الدكتوراه في القانون، حازت عدة شهادات عليا فخرية، وأوسمةً وتكريمات هنا وهناك، وأصدرت نحو 30 مؤلّفاً في قضايا الفكر والديمقراطية، وكانت قد درست في بداية حياتها الأدب البنغالي.
على أنّ حياتها السياسية كانت جامحةً، وقلّما اتّسمت بالهدوء والاستقرار. ومن المحطّات المثيرة في حياتها أنّها تحالفت مع شخصية نسائية في بلادها، هي خالدة ضياء، رئيسة الحزب الوطني البنغالي وأرملة الرئيس الراحل ضياء الرحمن، أحد قادة النضال من أجل "استقلال" بنغلادش، الذي اغتيل عام 1981 بيد ضبّاط عسكريين في محاولة انقلاب قادها اللواء محمد عبد المنظور. وبهذا وجدت الشيخة حسينة جوامع شخصية مشتركة مع ضياء، التي تكبرها بعامين، وأبرمت ما يشبه تحالفاً انتخابياً معها، لكنّ حسينة خسرت الانتخابات في العام 1991 أمام خالدة ضياء. وبصفتها زعيمة للمعارضة، اتّهمت حسينة حزب خالدة ضياء بعدم الأمانة الانتخابية، وقاطعت البرلمان، وهو ما أعقبته مظاهرات عنيفة، واضطرابات سياسية. استقالت رئيسة الوزراء الأولى في تاريخ البلاد خالدة ضياء، لتتولّى حكومة تصريف أعمال، ثمّ أصبحت حسينة رئيسة للوزراء بعد انتخابات يونيو/ حزيران 1996. وبينما بدأت البلاد تشهد نمواً اقتصادياً وانخفاضاً في معدّلات الفقر، إلا أنّها ظلّت تعاني اضطرابات سياسية خلال فترة ولاية حسينة الأولى، التي انتهت في يوليو/ تمّوز 2001، بعد هزيمة انتخابية أمام ضياء.
في 2018 حُكم على خالدة ضياء بالسجن 17 عاماً بتهمة الفساد، وسجنت عامين قبل إطلاق سراحها تحت قيود شديدة. تدهورت صحتها في إبريل/ نيسان 2019، إذ أصيبت بتليّف الكبد المُتقدّم، وبمشكلات في القلب. ورفضت رئيسة الوزراء الشيخة حسينة عام 2023 طلب أسرة ضياء بالسماح لها بالسفر إلى ألمانيا للعلاج. وقد غادرت الشيخة حسينة، ويصحّ القول إنّها فرّت من البلاد، فيما كانت صديقتها سابقاً، وغريمتها لاحقاً، في إقامة جبرية منذ ستّ سنوات، وقد أمر رئيس بنغلادش محمد شهاب الدين، قبل أيّام، بإطلاق سراح ضياء، وسراح المُحتجّين المُعتقَلين، في بادرة لإعادة الوئام الداخلي، وبدعم من الجيش، الذي تعلّم الدروس كما يبدو من الانقلابات المتوالية التي سمّمت الحياة السياسية، وأضعفت فرص البلاد في النمو.
اتسمّت شخصية حسينة بالحذر إزاء كلّ اعتراض أو مُعارَضة، وهو ما تجلّى في تعاملها مع حركة الاحتجاجات الطلابية
واللافت هنا أنّ مخزون الريبة لدى الشيخة حسينة دفعها إلى محاولة الإيقاع بمحمّد يونس، الخبير المصرفي الذي أسّس بنك الفقراء (بنك غرامين)، لتقديم قروض بمئات الدولارات، وأحياناً بمائة دولار فقط، للمعوزين، لتمكينهم من إنشاء مشاريع فردية صغيرة أو حتّى متناهية الصغر، وقد اتُّهم يونس الحائز عام 2006 على جائزة نوبل للسلام بالفساد بغير أدّلة، ما دفعه إلى الإقامة في المنفى، حتّى طالبت قيادة الاحتجاجات الأخيرة بتولّيه رئاسة حكومة انتقالية، وهو ما استجاب له رغم أنّه في الـ84 من عمره.
حسينة واجد، وأنديرا غاندي، وبنظير بوتو، وخالدة ضياء، نجمات لمعنَ في سماء الحياة السياسية في شبه القارّة الهندية، قضت اثنتان منهما (أنديرا وبنظير)، اغتيالاً، فيما تعرّضت الثالثة (ضياء)، لحكم قضائي بالغ القسوة، أمّا الرابعة، وهي الشيخة حسينة موضوع هذا المقال، فقد أرست نهجاً "ديمقراطياً" يقوم على الانتقام والتشكّك بأدنى معارضة، حتّى لو كانت معارضة طلابية. وانتهى الأمر بالسيّدة القوية إلى الفرار من وطنها وإدارة الظهر لشعبها ووطنها.
لا عزاء للسيّدات الطامحات في ذلك الجزء الحيوي من العالم.