لن يحصد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في التعديلات المرتقبة على دستور 2014 تحكماً كاملاً في السلطات الثلاث فحسب، التنفيذية منها والتشريعية والقضائية، بل إنه يمني نفسه أيضاً بتعطيل بعض الأحكام المنصوص عليها في الدستور والتي لن تطاولها يد التعديل أو الإلغاء، كنتيجة حتمية لسيطرته المحكمة على جميع السلطات والأجهزة والكيانات، وهو ما يفضي بمصر كدولة لها تاريخها المؤسسي والبيروقراطي منذ بداية القرن التاسع عشر، إلى مستقبل مجهول تحت ديكتاتورية مطلقة وشمولية تملك حقوق المنح والمنع والتعيين والإقالة للجميع بدون أي استثناءات.
فبعد تمرير التعديلات التي لا تزال في طور الاقتراح حالياً، سيكون السيسي رئيساً للمجلس الأعلى للجهات والهيئات القضائية، وسيكون هو المختص الحصري والوحيد بتعيين رئيس المحكمة الدستورية العليا، ونوابه، ورئيس محكمة النقض، ورئيس مجلس الدولة، ورئيس النيابة الإدارية، ورئيس هيئة قضايا الدولة، والنائب العام أيضاً، أي جميع قيادات السلطة القضائية بمختلف فروعها وأجهزتها.
كذلك، سيكون السيسي بعد تمرير التعديلات، متحكماً في المشهد السياسي بالكامل عن طريق إعادة تشكيل برلمان بغرفتين، إذ سيتم حلّ مجلس النواب الحالي بسبب تناقض الأحكام الدستورية الجديدة مع القانون الذي تم تشكيل المجلس على أساسه، كما سيتم تشكيل مجلس الشيوخ كغرفة برلمانية ثانية لا تختص بأي سلطات تقريباً، ما يرجح أن يكون المجلس عبارة عن مستودع لمن ترغب أجهزة النظام في ترضيتهم بلقب "نائب".
وبناء على هذا الواقع المستقبلي لرأس كل السلطات في مصر، يبدو من العبث إبقاء المادة 159 من الدستور على حالها، وهي المادة الخاصة بمحاكمة رئيس الجمهورية أو اتهامه بانتهاك أحكام الدستور أو الخيانة العظمى. ولهذه المادة قصة تاريخية تعكس تردي الأوضاع الدستورية والقانونية في مصر بعد انقلاب 3 يوليو/تموز 2013.
قصة المادة 159
في عام 1956، أصدر الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، قانوناً ينظّم محاكمة رئيس الجمهورية والوزراء، أمام محكمة عليا، "تتشكّل من 12 عضواً، ستة منهم من أعضاء مجلس الأمة (البرلمان آنذاك) يتم اختيارهم عن طريق القرعة، والستة الآخرون من بين مستشاري محكمة النقض ومن أقدم 30 مستشاراً بمحاكم الاستئناف، ويتم اختيارهم عن طريق القرعة أيضاً، ويرأس المحكمة أقدم المستشارين". ويأتي القانون بناء على افتراض أنّ رئيس الجمهورية أو الوزراء يضمنون في صفهم أعضاء مجلس الأمة جميعاً، فإنّ النصف الآخر المنتمي للسلطة القضائية لا يمكن السيطرة عليه. فمستشارو النقض يتم اختيارهم بواسطة محكمة النقض ذاتها، وأقدمية مستشاري الاستئناف في تلك المرحلة كانت تحدد بشكل مستقل تماماً عن السلطة التنفيذية.
ورغم عدم تفعيل هذا القانون إطلاقاً، إلا أن دستور 1971 صدر في مقتبل عهد الرئيس الراحل أنور السادات، حاملاً المادة 85 التي نصت على أن "يكون اتهام رئيس الجمهورية بالخيانة العظمى أو بارتكاب جريمة جنائية، بناء على اقتراح مقدم من ثلث أعضاء مجلس الشعب على الأقل، ولا يصدر قرار الاتهام إلا بأغلبية ثلثي أعضاء المجلس"، وبالتالي فرض النص الدستوري أن يبدأ تحريك الدعوى ضد رئيس الجمهورية بالخيانة أو ارتكاب أي جناية، من مجلس الشعب الذي كان في الحقيقة مسيطراً عليه من قبل رئيس الجمهورية، لكن في الوقت نفسه، لم يفرض رئيس الجمهورية نفسه في موقع اختيار من سيحاكمونه، ولو نظرياً.
وفي دستور 2012، أخذت الجمعية التأسيسية المنبثقة عن أول برلمان انتخب بعد ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011 خطوة للأمام، فكانت المادة 152 التي تنصّ على أن "يكون اتهام رئيس الجمهورية بارتكاب جناية أو بالخيانة العظمى، بناء على طلب موقع من ثلث أعضاء مجلس النواب على الأقل، ولا يصدر قرار الاتهام إلا بأغلبية ثلثي أعضاء المجلس... ويحاكم رئيس الجمهورية أمام محكمة خاصة يرأسها رئيس مجلس القضاء الأعلى وعضوية أقدم نواب رئيس المحكمة الدستورية العليا ومجلس الدولة وأقدم رئيسين بمحاكم الاستئناف"، مع العلم أنّ الدستور نفسه كان ينصّ على أن "تقوم كل جهة أو هيئة قضائية بشؤونها، ويكون لكل منها موازنة مستقلة"، وكانت كل جهة تختار رئيسها من تلقاء نفسها بالأقدمية المطلقة، وهو الوضع المغاير تماماً لما تكرسه التعديلات الجديدة.
وحافظ دستور 2014 في المادة 159على التشكيل نفسه تقريباً، فأصبحت المحكمة الخاصة برئيس الجمهورية مكونة من "رئيس مجلس القضاء الأعلى، وعضوية أقدم نائب لرئيس المحكمة الدستورية العليا، وأقدم نائب لرئيس مجلس الدولة، وأقدم رئيسين بمحاكم الاستئناف، فيما يتولى الادعاء أمامها النائب العام". وبناءً على هواجس لجنة الخمسين التي وضعت الدستور وقتها، من تكرار ما وصفته مراراً بخروج الرئيس المعزول محمد مرسي "عن الشرعية الدستورية"، استحدثت المادة نصاً يسمح بتحريك الدعوى الجنائية ضد رئيس الجمهورية ليس فقط بسبب "الخيانة العظمى أو أي جناية"، بل أيضاً بسبب "انتهاك أحكام الدستور". وفي هذه الحالة، يحيل مجلس النواب إلى تلك المحكمة (المفترض وفقاً للدستور نفسه أنها مستقلة) الرئيس لتحاكمه، وتقرر ما إذا كان بريئاً أو مذنباً، وتحدد ما إذا كان صالحاً للاستمرار في منصبه أم لا.
ولن تتطرّق تعديلات السيسي إلى هذه المادة بطبيعة الحال، لكنها تفرغها تماماً من مضمونها، بل وتحولها إلى مادة للسخرية، فالأمر ليس مقتصراً على اختيار السيسي رئيس المحكمة التي تنظر في دستورية قوانينه، أو المجلس الذي ينظر في مشروعية قراراته، بل يمتد الأمر لاختيار من قد يحاكمونه ويباشرون اتهامه. هكذا، يصبح السيسي هو المختص باختيار رئيس تلك المحكمة، أي رئيس المحكمة الدستورية العليا، من بين أقدم 5 أعضاء من المحكمة. والأمر نفسه ينعكس أيضاً على المادة 160 التي تنظّم انتقال السلطة في حالة الاستقالة أو الوفاة أو العجز الدائم عن العمل تزامناً مع حلّ البرلمان، إذ يكون رئيس المحكمة المختار من قبل السيسي هو الرئيس المؤقت للبلاد.
كما سيكون السيسي هو المختص باختيار النائب العام الذي يتولى الادعاء عليه، بنفسه، وذلك من بين 3 مرشحين يقدمهم له مجلس القضاء الأعلى، أخذاً في الاعتبار أن المادة 189 من دستور 2014 المراد تعديله، لا تعطي السيسي هذا الحق، بل تنصّ على أن "يتولى النيابة العامة نائب عام يختاره مجلس القضاء الأعلى، من بين نواب رئيس محكمة النقض، أو الرؤساء بمحاكم الاستئناف، أو النواب العامين المساعدين، ويصدر بتعيينه قرار من رئيس الجمهورية لمدة أربع سنوات". أي أنّ دور السيسي كان يقتصر فقط على إصدار القرار لبدء العمل، لا الاختيار.
ووفقاً للمعلومات المتداولة في مجلس النواب، فإنّ التعديلات الدستورية سيتم إقرارها مبدئياً منتصف شهر فبراير/شباط الحالي، لتبدأ فترة 60 يوماً من المداولة، وبعدها تعقد جلسة نهائية للموافقة على تفاصيل التعديلات، ثمّ تطرح على الاستفتاء الشعبي خلال 30 يوماً، ما يرجح اللحاق بإقرار التعديلات قبل بدء شهر رمضان في الأسبوع الأول من مايو/أيار المقبل.