هي قصص ليست استئنائية بالنسبة لأهلها، فتلك هي سيرتهم اليومية وتفاصيلهم المتعاقبة، لكن من دونها لا حياة تُنسج في المدينة ولا تُغزل إلا أن نشرات الأخبار تلفظها وبيانات وتقارير المجتمع المدني تستثنيها وتتناساها القيادة السياسية "الوطنية"، فيما تشكّل هدف الاستعمار الأول وصلب مشروعه في المدينة.
ترميزات تحجب الناس والمدينة
استُبدل الفلسطينيون عامةً، وأهل القدس منهم تحديداً، بشخص البطل المتشح بالكوفية والمقاوم، الذي لا يُهزم، فحلّ هذا محل الانسان الفلسطيني العاجز حيناً، والصابر حيناً، المتحدي حيناً، أو المستسلم حيناً آخر على خشبات المسارح، وفي صالات السينما. هذه الثقافة التي أفرزتها "الثورة الفلسطينية" في مطلعها، في الشتات، وتداولتها الأجيال ، أعدّت للقدس صوراً وأوصافاً جاهزة سلفاً هيمنت على مسألة التمثيل برمته: سياسياً كان أم ثقافياً، ما يجعل التحدي الأكبر الذي تواجهه الثقافة المنتجة في القدس هو كيفية الإفلات من مأزق استهلاك ما بات يصوغ ويشكل التجربة الإنسانية الحياتية اليومية لأهلها. في قلب كل هذا تأتي تجربة مسرح "الرواة" مثالاً فريداً قام بالقفز فوق القوالب الثقافية الجاهزة، مقدماً أعمالاً مسرحيةً ذات مفاهيم حضارية أتاحت لنا شقّ ثغرةٍ في السور لرؤية القدس بعين أصيلة.
تتمثل فرادة تجربة مسرح "الرواة"، الذي تأسس عام 1987، في طرحه المتحدي لذلك السائد في الحيز الفلسطيني السياسي والثقافي، إذ إنه يركز على الذات الفلسطينية، ويطرح تجربتها الحياتية الإنسانية والتمظهرات السيكولوجية المشتقة من المواجهة مع الاستعمار كما هي من دون رتوش؛ كما يحدثنا النص/ الصوت الخارج من العمل المونودرامي "الأحداث الأليمة في حياة أبو حليمة" (2008). ولا يقتصر توظيف وتطوير الجانب الحياتي الشعبوي في مضامين أعمال "الرواة"، إنما ينسحب على الأدوات الفنية وأسلوب العرض التي استمدها من الحالة الشعبية، إذ استطاع عبر الارتكاز على مفهوم الفرجة الشعبية من تطوير أدوات عرضه وطرقها وتحديداً عبر الاستفادة من التراث الحيّ لشحصية الراوي ودمجه في مواضيع حياتية من ثنايا التجربة اليومية المقدسية.
مسرح "الرواة"، الذي عاشر القدس ما يربو عن عشرين عاماً، طاوله ما طاولها إثر التغيرات والتقلبات السياسية التي شهدتها في غضون ذلك، انطلاقاً من الانتفاضة الأولى، مروراً بـ"أوسلو" ثم الانتفاضة الثانية وبناء الجدار، وصولاً إلى هذه اللحظة. التغيرات فرضت واقعاً كان على أهل القدس التعايش معه للحفاظ على وجودهم في المدينة بحيث انقلبت الآية فباتوا مضطرين لإثبات "مقدسيتهم" للاستعمار وهُم أهل المدينة. وما كان مسرح "الرواة" برؤيته الإنسانية والشعبية وأعضائه المقدسيين معزولين عن هذا الواقع. كان على المسرح التعامل مع واقع ثقافي استعماري دخيل دأب على إحلال ثقافة الانصياع والتواطؤ والانغماس في الواقع من غير تحديه محل الثقافة الوطنية؛ بدورهم رأى القائمون على "الرواة" في الحركة المسرحية فعلاً إنسانياً من أجل التغيير. ومن هذا الباب انطلقوا في مشروعهم المسرحي الغزير.
القدس خشبة مسرح كبيرة
لا يعرف غالبية الفلسطينيين مدينة القدس – شأنها بذلك شأن مدن فلسطينية أخرى - فهم غير قادرين على زيارتها سواء كانوا لاجئين في الشتات، أو حتى في المدن والقرى الواقعة على مرمى حجر من المدينة؛ على أثر العزل الجغرافي والسياسي الذي فُرض على القدس منذ بناء الجدار تحديداً. أما إذا جاؤوها فإما متعبّدين أو متسوقين، لذا يمسك مسرح "الرواة" ابن القدس عبر أعماله المتعددة بكفّ هؤلاء ويمشيهم في شوارع المدينة وبين بيوتها مجيباً عن سيل الأسئلة المنبعث من زواياها:
لماذا تتواجد عشرات المحال في البلدة القديمة التي تبيع البضائع نفسها بـ"الزبط"، وكأن جميعها منسوخة عن بعضها بعضاً؟ وهل يبيع هؤلاء بضائعهم؟ كيف يترزقون؟ وكم من لغة يعرفون ليفاوضوا هذا السائح الإيطالي أو ذاك النرويجي أو ذلك الأميركي؟ وهذه العتبات المغلقة التي تتزايد سنة تلو سنة، لماذا أغلقت أبوابها، وإلى أين يذهب أصحابها؟ وكيف يعبر العتّالون بعرباتهم وأحمالهم، هل اعتادوا على الطرقات الضيقة أم هي اعتادت عليهم؟ والأطفال المنزلقون بالعربات من دون خوف أو هلع.. من علّمهم كل هذا؟
والعائلات التي تسكن "حارة السعدية" و"باب حطّة" أين يدفنون أمواتهم وأين يقيمون بيوت العزاء بل أين يقيمون أفراحهم؟ والبيوت العربية في طريق الواد التي رفعت فوقها أعلام الاحتلال، إلى أين رُحّل أصحابها؟ ماذا سيحل بالقدس بعد عقْد أو عقدين؟ وتغمر الأسئلة السائل ولا تنتهي.
اعتبر "الرواة" القدس منذ بواكيره خشبة مسرح كبيرة، يستمدون منها القصص والحكايا وبين جنباتها يعرضون أعمالهم سواء في الهواء الطلق أو في قاعات مغلقة. يصّر الممثل والمخرج المسرحي المقدسيّ إسماعيل الدباغ، أحد مؤسسي "الرواة" والكاتب والممثل المركزي في غالبية أعمال المسرح، على علاقة تبادلية بين المكان والثقافة فيما يسميه "الثقافة المكانية"، التي تكرس التجربة الحياتية للفنانين من أبناء المكان من دون أن تهمل المعرفة التاريخية والإلمام بها. إذ يدأب المسرح على الجمع ما بين التجربة الحياتية للفنانين أنفسهم وبين البحث والدراسة التاريخية والاجتماعية عن المكان.
وفي وقت بات قطْع صلة الفلسطينيين، وخاصةً الجيل الشاب بالقدس، إما عن طريق هدم واخلاء البيوت وسحب الإقامة المقدسية من سكان المدينة الفلسطينيين أو بمنع سكان "الضفة الغربية" من دخول القدس، واحداً من الممارسات الاستعمارية الأكثر فعالية في تحريف تاريخ المدينة الفلسطيني وموقعها فيه.
المسرح في عزلة الاحتلال
تزامن نشوء "الرواة" مع تصعيد مستمر لسياسة إخلاء القدس سياسياً وثقافياً، ما جعل من دور المسرح ومقدرته على التغيير أمراً حيوياً يشغل أماكن شاغرة بحكم العزل الذي فرض على القدس. ويقول الدباغ إن هذا التجريد وإفراغ الثقافة من أي محتوى سياسي أو تاريخي غير مفصول البتة عن سيرورة التدهور السياسي الذي مر بها الفلسطينيون عامة، وعليه فالحاجة للتشديد على الرابط المكاني هي بمثابة فعل مقاوم.
انطلق "الرواة" بنشر الثقافة المكانية عبر تحويل القدس نفسها إلى مسرح كبير تقمص ممثلو "الرواة" شخصيات مختلفة مثل صلاح الدين الأيوبي، وتنكز الحسامي الناصري- والي الشام أيام الحكم المملوكي، وهدريانوس باني إيلياء، وتوزعوا في المواقع المقدسية التي ارتبطت بهذه الشخصيات التاريخية مؤدين أدوارهم من هناك ليقصّوا حكايا المكان والمارين فيه.
وجّه الحضور وغالبيتهم في مقتبل العمر الأسئلة للممثلين أو الشخصية التاريخية التي تقمصوها، الأمر الذي شكّل حافزاً وعاملاً في تغيير نظرتهم إلى المكان بوصفه معطى مجرداً، ودفع باتجاه المشاركة في التنقيب فيه واستكشاف تاريخه. وفي العام 2008 حوّل الرواة باب العمود- المعلم الأشهر في القدس- مسرحاً قدموا فيه مسرحية "مجلس العدل" التي تعتمد نصاً مسرحياَ للأديب المصري توفيق الحكيم.
القدس كانت حاضرة في أعمال الرواة حتى حين لم تكن مسرحها الفعلي، فنرى المدينة بحيواتها اليومية تتكرر في أعمال مسرحية مثل "الزبال" (1990) التي تروي حكاية عز الدين الزبّال العامل في البلدة القديمة.
عرضت هذه المسرحيات في القدس، وفي مدن وقرى "الضفة الغربية"، إذ كان "الرواة" من أوائل من اهتموا بأن تصل أعمالهم إلى المسارح الفلسطينية عموماً، وأيضاً إلى المدارس من أجل إيصال القدس لهذه الشريحة المهمة من المشاهدين. كما عرض "الرواة" أعمالهم في المدن والقرى الفلسطينية المحتلة عام 1948. ثم وصلوا بأعمالهم إلى العديد من الأقطار العربية من الأردن إلى مصر وتونس وسوريا وفي دول غربية عديدة.
بهذا تمكن مسرح الرواة من حمل القدس-ولو مؤقتاً- للمحرومين منها، كاشفاً لهم ما يجري بعيداً عن الكليشهات والترميزات التي ألقت بظلها على المدينة وحجبتها.