يمثّل القاضي في رواية كافكا "في مستوطنة العقاب" السلطة المطلقة التي تتسم بانعدام أيّ وازع أخلاقي. فحين يأتي إليه أحد النقباء كي يشتكي على خادمه، وحارسه، مدّعياً أنه نام في أثناء نوبة الحراسة، يكتفي بتدوين إفادة النقيب، ويرفقها بإصدار حكم بإعدام الحارس على الآلة التي يستمر طوال السرد في وصف آلية عملها، لشخصية أخرى تسمّيها الرواية: المستكشف. وهو مراقب عام يجول على المستوطنة للتأكد من عمل آلات القتل فيها.
يسوغ القاضي قراراته الحاسمة التي يرفض فيها الاستماع لما يقوله الحارس: "أما إذا استدعيت الرجل أولاً ليمثّل أمامي، وحقّقت معه، فإن الأمور كانت ستختلط على نحو مربك. كان حريّاً به أن يلقي بالأكاذيب، لدعمها بالمزيد من الأكاذيب. وهكذا بلا انتهاء". "فالذنب ينبغي ألا يكون أبداً موضع شك".
ويبدي القاضي أسفه وخيبته مما آلت إليه الأمور في عهدة القائد الجديد الذي أخذ ينفّذ أحكام القضاة بعيداً عن المُشاهد. فالتنفيذ يظلّ ناقصاً، ومرتبكاً إذا ما نُفّذ في الخفاء، أي من دون مشاهدين. يسمّي القاضي تنفيذ أحكام الإعدام بالمتهمين: احتفالاً. و"قبل الاحتفال بيوم واحد كان الوادي يحتشد بالناس. يقبلون جميعاً للمشاهدة في ساعة مبكّرة. يقبل القائد ومعه سيداته. توقظ الأبواق المعسكر بكامله". فالمشهد جزء من آلية السلطة المستبدّة، والحشود كانت دائما إحدى الدعائم المجرّبة للطغاة، غير أن حضورها في "احتفال" الإعدام يمنح السلطة مشروعية جديدة.
تبدو ملاحظة القاضي وأمنياته مضادّة أو متباينة مع تقرير غوستاف لوبون عن عصر الجماهير. ففيما كان لوبون "يتوجّس من دخول الجماهير إلى المجال العام"، يشتهي القاضي الجلاد في رواية كافكا عودة الأيام الخوالي التي كان الإعدام فيها احتفالاً جماهيرياً. لا يتعلّق الأمر هنا بحضور الجماهير الفاعلة، بل بحضور مقهور مرغم على المشاهدة، يأتي كي يتعلّم أن هذا هو ثمن التمرّد أو المخالفة.
سوف نرى المشهد يتكرّر في السنوات الماضية حين يعمد تنظيم داعش إلى تنفيذ إعداماته وفق الآلية التي أرادها القاضي في مستوطنة العقاب. وتحتفي الصورة، والفيديو، في أفلام الإعدام الداعشية بالحضور الجماهيري، بقدر ما تحتفي بمشهد الإعدام.
قد يقال إن الرقابة التي تبنيها السلطة، تقدّم دوراً مضادّاً للفرجة. حيث يُمنع الجمهور بوسائل عديدة من المشاهدة، أو القراءة، أو اكتساب المعرفة. غير أن الملاحظ هنا أن نظام المراقبة يمنع الجماهير من الاطّلاع على الفنون القادرة على إحداث التغيير السلوكي أو الفكري لديها، في حين أن النظام نفسه يسمح لتلك الجماهير بالتواجد في أروقة الهتاف، وساحات التأييد المعدّة.
إن العالم المعاصر يشهد رغبة سلطوية متجدّدة لإنشاء مستوطنات العقاب، وتتولّى الدول الكبرى كأميركا وروسيا مسائل إنشائها، حيث يتحوّل القادة فيها إلى قضاة على غرار القاضي في رواية كافكا، يدعي أن "ذنوب الآخرين ينبغي ألا تكون موضع شكّ على الإطلاق". ويعرض الرئيس الأميركي ترامب القرارات التي يوقّعها لإنشاء مستوطنات العقاب أمام الحشد في قاعة تعجّ بالمصوّرين الذين يضمنون له أن يكون الملايين ممن صّوتوا له، أو لم يصوّتوا، موجودين في الاحتفال.