مزاح قاتل في دمشق

18 اغسطس 2016
رندة مداح/ سورية
+ الخط -

لم يبق للسوري، داخل حدود بلده، سوى بعض الشوارع بين حواجز التفيش والساحات المغلقة، يذرع فيها هرباً من أشكال القهر المعيشي والأمني الذي ولّد صمتاً عاماً يسمّيه الإعلام السوري "صموداً"، ويستثني رعب الوجوه من كاميراته.

تُفتح العدسة على تجمّعات "الحياة الطبيعية" في أمكنة حيوية يُعرف عنها مستويان معيشيان؛ طبقة الأثرياء في أسواق الصالحية والحمراء، وطبقة الفقراء قرب بسطات شارع الثورة أو عشوائيات نهر عيشة جنوب العاصمة.
الصورة لن تكون، هذه المرّة، عن التأكيد المستمر أن البلد "بخير"؛ ذلك أن المدعو "أدونيس شدود" يهرع حاملاً مايكرفون قناة "سما" الفضائية السورية، ليقتحم شرود الناس وسط دمشق بسؤال حول "إمكانية إعادة فتح السفارة السورية في دمشق".

للحظة، يفكّر الناس في أن أقبية الموت التي لا توّفر متكلّماً لديه نَفَسٌ عكس ما يريد أرباب السلطة ولو من باب المزاح هو مصيرهم لو قدّموا إجابةً سلبية، فذهبوا، في فيديو قصير لا يتجاوز ثلاث دقائق، إلى امتداح هذه "الخطوة الحكيمة" بإيجابية عالية ستصل بأحدهم إلى القول: "منيح أنو فتحت السفارة السورية بدمشق مشان يرجعو كل السوريين لبلدهم!".

أين الفكاهة في سؤال كهذا موجّه إلى من بقي في دمشق، بينما تلتقط الكاميرا مشاهد للحدائق التي يفترشها المهجّرون والفقراء، وسحنات الحرب تُترجم ترقّبهم القادم، هل سيأتي التلفزيون ليسألهم إن كانوا يحتاجون شيئاً؟ بالطبع لن يفعلها، فالبلد لا زالت بـ"خير القذائف" و"دسم المليشيات" بتنوّعها الرديف للنظام وأجهزة الأمن، وهذه الأخيرة وصلت إلى توظيف عناصرها في دورات المياه المنتشرة قرب الحدائق العامة وبعض الشوارع، للتمويه.

رغم ذلك، لن يغادر مخيلة السوري الواقف أمام كاميرا "سما" أن أحدهم يسجّل ما سيقوله، ولا يدري أن القناة تستثمره باستخفاف كما البقية، لتنتج برنامجاً باسم "لو فرضنا جدلاً".

مثيرٌ للشفقة هو إضحاك الناس على سذاجتهم على منبر السلطة، الذي يقول بوقاحة أمام الجراح وعجز أهلها: "هيا أيها الشعب، لقد أصدرت الحكومة قراراً باستحمام المواطنين مرة كل أسبوع، صيفاً، بسبب تقنين الماء".

هذا يُطرح أيضاً ضمن البرنامج نفسه، لكن التقنين أصبح واقعاً عاشته مدينة سلَمية في محافظة حماه، إذ تظاهر الناس هناك منذ أسابيع بسبب انقطاع المياه أشهر طويلة، والمدينة تحت سيطرة النظام، إذ ما عاد في الأمر نكتة للضحك بل لتحويل مآسي الناس إلى مشاهد ساخرة يكتب تفاصيلها الشارع المخنوق بدلالات الحصار الطوعي.

"خفة دم" القناة، التي يملكها أحد كبار رجال الأعمال الموالين لبشار الأسد، لا تعنيها يافطة الأسعار النارية الظاهرة على الشاشة، خلف الناس الذين يردّون على فرضية الجدل المقيتة، ولا تهتم بأصابع الأطفال الذين يلوّحون للكاميرا التي صوّرت يوماً دمار البيوت في المناطق المنتفضة على أنها أوكار "مندسين".

المساهمون