مرّ ولم يتوقف

14 يونيو 2016
من أعمال الفنان الفرنسي هنري روسو (Getty)
+ الخط -
استمر المطر يهطل في العالم الآخر وراء النافذة. بحر غرقت فيه السماء والأرض، يشدّ أيادٓ إليه، فيتمرد ويغطس في بحور من الشموس والأقمار في مدينة بعيدة.
لم تلتفت العاصفة إلى حديث الجنس المثير في الرواية الساخنة، الذي يطوّق أياد من كل جانب برغبته واختياره. بالطبع، مع الاحتفاظ بحق الشك في درجة الاختيار إن وجد، والتسليم الكامل بالرغبة المطلقة. مضى المطوّق في ما هو فيه، يلمس ويسمع ويتذوّق، بل يكاد يؤلف ويكتب ما يقرأ! ومضى المطر المتعاطف معه، يصفع الطريق، وشغاف القلب، يمدّ للخيال الواسع أكثر من حصير و"زولية".

وضع الكتاب جانباً ليلتقط أنفاسه، وليجمّع قطع نحاس وفضة، اختلطت فيها الكهرباء بالماء، صار إليها، تحت مطارق جُملٍ مفخخة، تستقي الحبّ وأبوابه من معين الـ " كاماسوترا"، وتهتدي بـ "رجوع الشيخ إلى صباه"، وتسمي الأمور الجميلة بأسمائها الجميلة! سقط من يده قلم أحمر لا غنى له عنه، به يضيء السطور ويصحح "وظائف الطلاب"!
كان اندفاعه لالتهام كل حرف وهمسة، لا يعادله سوى دفع باتجاه معاكس، يحثه على ادخار الكنز أو ما بقي منه إلى وقت آخر، كأنما هناك، وليس هناك، وقت أكثر ملاءمة للتعاطي مع السكّر المتفجر بين يديه.

أخرج زجاجة "ريد ليبل"، حضّر كأساً حيدريةً من الويسكي، نظر إليها بحميمية وشوق، ثم أفرغها في حلقه دفعة واحدة. فعل ولم يفعل. أخذ رشفة صاخبة من الشاي "الزنكين" الذي نسيه في "الاستكان"، فللضرورة أحكام!

منذ ساعتين، كان الأستاذ أياد الحلّي، مدرس التاريخ والجغرافيا ونائب المدير في مدرسة السعدون، بكامل قيافته، مرتدياً "قاط وقبوط وقندرة" جالساً إلى "الميز" المعتادة في مقهى الشابندر المطلّ على النهر العريض، يلعب الورق، في جو عابق بالدخان ومقامات ناظم الغزالي، ونقرات ارتطام النرد في طاولات الزهر.

أو كان، بعد يوم طويل قضاه مع الطباشير واللوح الأسود، "يسولف" مع أصحابه بما لا يهدد أمناً ولا يخطط لانقلاب، بانتظار سمك "المزقوف" في شارع أبو نواس على ضفة دجلة الخير، الذي يقطع بغداد من الشمال إلى الجنوب، ويوقع اسمه على صدرها في تعاريجه ومجونه، فتثأر المدينة وتمد جسورها فوقه، لتقفز الرصافة إلى الكرخ، ويزور بيتُ أهله بيتٓ حميه.

أما نادي العلوية، "خلف الله" على ندواته وجلساته، فسيفرّ إلى "الصفحة" الشرقية راكباً كل الجسور والقوارب، مبتعداً عن "قصر النهاية" الرهيب، الذي استقبل أياد أكثر من مرة، بسبب منشورات لم تنشر، ونوايا ذنوب لم تولد، علم الوشاة بها وبتفاصيلها قبل علمه!
بل كان أياد هنا بالجسم على الأقل، واقفاً على قدمين منهكتين، في لندن التي انتهى إليها منذ عدة سنوات، غير أنها ما زالت لا تعرفه ولا يعرفها. كان يضمّ إلى صدرة رواية غرامية جديدة، ستسدّ جوعه بشهدها، وتطلقه نحلة مراهقة بين الورود والأزهار.

كان بانتظار الباص ليعود به إلى غرفته الضيقة، "البيتونة" التي تؤويه مع كتبه ودفاتره وخرائطه ووجوه طلابه، التي يسكنها وحيدًا، ويشاركه فيها بيته البغدادي و"بزونة" البيت، وولداه وزوجته ووالداه. وتتسع لأهله وجيرانه الموزعين في أرجاء الدنيا، تحت سطح الأرض أو فوقها، أغلب الأوقات مجتمعين!

عبثاً، وهو بانتظار الحافلة، حاول تجاهل الرصيف المقابل والواجهة السوداء التي يرتزق أصحابها من نشاط عزرائيل حصراً. كان يجب أن يكون معصوب العينين ليتجنبها تراه بوضوح إذ ينظر إليها بطرف عينه! فجأة، كما يحصل دائماً، أمسك قَلْبُه بعصا مدرس عصبي المزاج، انهالت تدق صدره بإلحاح مخيف.

وصل "أبو الطابقين" مخلصاً. قدم رداً بالإيجاب على سؤال لاسماعيل ياسين كان الولد "الشقفدحي" ابن الكرادة الشرقية "يتشاقى" به مع الأولاد "إزّي بص استوب هير؟" وتكون التتمة في أمرك توقف الباص محيّرة "آي دونت نو بيرهبس يس بيرهبس نو" فيضحك السعداء، غير مدركين عن أي باص، في أي زمان ومكان يتحدثون.

من تحت "القريولة" أو من وراء الخزانة، على هذه الجهة من العالم، يتنحنح إلهام المدفعي صديق قلبه وأذنيه، وينطلق ببحة صوته المؤثرة، معترفاً بحقيقة بسيطة أخذ يقلبها بين أوتار جيتاره وأوتار حنجرته وحنجرة أياد "مالي شغل بالسوق، مريت أشوفك. عطشان حفن سنين وأروي على شوفك". ثم يغير اللحن والأغنية ويدخل صوته الدافئ في منعرج جاد تحت تأثير السيمفونية التي تمطر وراء النافذة "كقطرة المطر كنت وحيداً يا حبيبتي، وحيداً يا حبيبتي كقطرة المطر".

تاه أياد بين نقاط إلهام المدفعي الذي سيشتري لحبيبته "القمر ونجمة الضحى وبستاناً من الزهر" وبين نقاط "جافة" تنطح الزجاج، ولا تلوي على شيء. عبثاً يحاول تجميع شتاته والعودة بروحه إلى حيث ترك جسمه، تشاكسه خواطر تثبط العزم وتثير الحيرة "يابا شنو القضية، شكو ماكو يمعوّد، عبالك آني أثول واللا مخبّل؟" لم يكن معه من يرجّح احتمالاً على آخر، ولا من يفرق بين معتوه ومجنون!

لو استمر السماح بالتدخين في الأماكن العامة لأشعل خمس سجائر دفعة واحدة، هذا ما يصف شعوره. تبسّم، فمع كلمة "لو" كما يذهب المثل، يمكن وضع باريس في قنينة. واسترسل... وبغداد "بحالها" وأطباق "الباقلا بيض"، و"اليابسة على تمّن، و"الفسنجون" التي تحمل "أنفاس" أمّه وزوجته، وكل أدوات التعذيب التي خبرها في أبو غريب! ومع الجنيّة "لو" تخرج الأشياء من الزجاجة بكل سهولة...إضافات من بنات أفكاره، فرح بها وبكى منها في وقت واحد. "طبّب" نفسه بكأس ثانية من الشراب اللاذع، المفقود لديه لأسباب قاهرة!

استدرك مباشرة، متى كانت غرفته من الأماكن التي شملها قانون التدخين؟ لا بد أنه في هذا الخصوص، كما كان يصنّف طلابه أحياناً، "دماغ سيز"! بالقلم الأحمر الذي لا يفارقه، أعطى المدرسُ الصارم للتلميذ المقيم في جلده، علامة الصفر المربع من دون تردد!

كاد يمضي في هذا الاتجاه أو ذاك، نائياً عن الغنيمة التي بين يديه. انتفض مستجمعاً أطرافه وأفكاره، قطف عدة نقاط من المطر الحكيم، وراح يحاورها ويسأل رأيها في أمره وأين يكون المصير! غير أنها انزلقت من بين أصابعه، وسعت تمسح جبينه وصلعته. ثم تسلقت الجدار وأضاءت المصباح الكهربائي. في ذمة الشهوة، والروايات العاطفية، والوليمة التي في الورق الملتهب، يوم آخر!

وسيقف أياد، منتظراً الباص في مكانه المعتاد، حاملاً، خبزه كفافه، فطوره وعشاءه في رواية دسمة، انتصرت كأخواتها المجرَّبات قبلها، على "قشمرة" الكتب الرصينة التي كفر بها، وتفوقت على أخبار الجرائد التي شفي من دائها. فالجنس المقشّر المنضدد في السطور المستقيمة "خوش ونسة" و"كلش زين"، ولا يتسبب في سين اتهام لا يرحم، ولا يستدعي جيم جواب لا يُنجي. وهو في معارك التاريخ "أم المعارك"، وفي الجغرافيا هو البوصلة والأسطرلاب!

لكن، سيتعطل الباص اللعين يوماً، ويتأخر في الوصول، وعندما يمر بعجلاته الكبيرة، لن يتمهل، ولن يتوقف ولن يفتح الباب. "ربّ الحلو" سيصرخ أياد من أعماقه مستنجداً مستسلماً، وسيخرّ "متأذياً مدمراً" ويعود للصراخ "زمال"، ولن يلحقها بابن زمالة، بقية الشتيمة التي تفعل فعلها في "ولايته"، بين أشجار النخيل الباسقة. ثم، من دون إرادة منه، سيعبر الطريق ويدخل في البناء المقابل والواجهة السوداء، مسلحاً برواية جديدة ستبقى ساخنة، بعدما تبرد اليد التي تحملها.
المساهمون