مروان قصّاب باشي: آخر صورة العالم

23 أكتوبر 2016
قصّاب باشي (1934 -2016)
+ الخط -

رسم مروان قصّاب باشي (1934 -2016) حياته كيوميات بصرية كما كان يصفها؛ تتكثّف كائنات بشرية تنطق بأفكار صاحبها وحالاته. هكذا ملأ لنا الفنان التشكيلي السوري، الذي غادر عالمنا اليوم في برلين، ذاكرتنا ببحثه عن براءة اللون في وجوهه الحزينة والعابسة والشاحبة.

انهمك لأكثر من ستين عاماً في الاشتغال على الشكل الإنساني، الذي سكن تجربته حتى نهاياتها، باستثناء مرحلة وسطى بدت أكثر اختزالاً وقدّم فيها طبيعة صامتة ربما بقي فيها شيء من أثر إنساني، غائب ومضمّن كأنها تشير إلى تراكم تساؤلاته الوجودية.

تحوّلات الوجوده استمرت وتفاعلت داخل لوحاته نحو مزيد من التكثيف والاختزال، وملتصقة برؤيته تجاه الواقع بقلقه وتوتر أبنائه، مبلوراً في كل مرحلة سيرة جديدة للوجه، وهو ما وصفه ذات يوم بقوله:"أصبح الوجه في أعمالي صورة للعالم، وليس لشخص واحد".

لخّص قصّاب باشي تجربته بأربع مراحل: مرحلة التشخيصات التي بدأ فيها مسيرته بشخوص كونية ليس لها شبه إنساني لكنها تشبة الصورة الأولى للحياة والكون، ومرحلة اكتشاف الوجه المشهدي بوصفه منظراً وفيها برزت وجوهه العمودية بخلفياتها ذات الصلة بطفولته الشامية، ثم جاءت مرحلة الدمى والطبيعة الصامتة التي عكست تجريباً وترميزاً أكبر، وأخيراً أتت "مرحلة الرؤوس"، كما يسمّيها، مكرساً مزيداً من التضارب والحيرة والتأمل.

لم يأت ذلك مبرمجاً سلفاً، فلا بد من الإشارة إلى أنه اصطدم في خمسينيات القرن الماضي بأسئلة الحداثة التي صنعت صخب الحياة الفنية التشكيلية في دمشق ومدن عربية أخرى، فانتقل إلى الدراسة في "كلية برلين العليا للفنون الجميلة"، حيث اختار أن يقيم وينطلق في تجربته التي تقاطعت مع الأسلوب التشخيصي المنتشر وقتها في ألمانياً باعتباره جزءاً من الحركة التشكيلية المعاصرة فيها.

"زمن برليني" وّجه مسار حياته وإبداعه، لتأتي محطة أساسية ثانية أثّرت على نحو واضح في نظرته إلى الواقع، وهي هزيمة حزيران/ يونيو 1967، هناك غدت وجوهه مهمومة بأزمات بلده وثقافته وسياساتها، وتجدر الإشارة هنا إلى كتابه "من مروان إلى أطفال فلسطين" الذي ضم توثيقاً لمجموعة الأعمال التي أهداها إلى "جامعة بير زيت" و"مركز خليل السكاكيني الثقافي" في رام الله.

شكّلت رسوماته ضمن بعض أعمال عبد الرحمن منيف شاهداً على قراءته للزمن العربي ومقارباتهما المشتركة ضد استبداد الأنظمة العربية وفسادها، كما أظهرته رسائلهما المشتركة في كتاب "أدب الصداقة" (2012) الذي حمل توقيعهما، وقبله كتاب عبد الرحمن منيف بعنوان "مروان قصّاب باشي: رحلة الفن والحياة" (1997).

وربما ما يشدّ الانتباه في رسائل قصّاب باشي إلى منيف التي تحيلنا إلى الحلم الأول للإنسان حين يشبّه نفسه بذاك الطير الذي بنى دمشقه في برلين في مرسمه، وأنه بجناحين يطير بهما يرى العالم ويرى نفسه وبرى الفن.

رؤية مروان قصّاب باشي أنتجت عملاً واحداً، لطفل يحلم بالطيران، لكن ذاكرته ستبقى محتشدة بألوان التراب التي تسللت إلى لوحاته ولم تغادرها إلى الأبد.


المساهمون