في ظل التخبّط الواضح في معالجة تفشي فيروس كورونا في الولايات المتحدة، قرر الرئيس الأميركي دونالد ترامب، توقيع مرسوم لدعم الاستغلال التجاري لموارد القمر والأجرام السماوية الأخرى، متحفزاً بعقلية التاجر ورجل الأعمال الذي يبحث عن ضالته لتعويض تريليونات الدولارات، وربما توسيع أمبراطوريته الاقتصادية. بناء عليه، مهّدت خطوة ترامب لإشعال فتيل حرب فضائية مع روسيا، التي اتهمت الولايات المتحدة بمحاولة استعمار الفضاء والسيطرة الشرسة على ثروات تملكها البشرية جمعاء. ورداً على توقيع الرئيس الأميركي في 6 إبريل/نيسان الحالي المرسوم المتعلق بالقمر، أعلن الكرملين رفضه أي محاولات "لخصخصة" الفضاء الخارجي. وقال المتحدث باسم الرئاسة الروسية دميتري بيسكوف للصحافيين، إنه من الصعب القول ما إذا كان المرسوم المذكور يمكن اعتباره محاولة لخصخصة الفضاء، مشدّداً على أن "مثل هذه القرارات تحتاج إلى تقويم قانوني بحت، فهناك حاجة أولاً إلى دراسة هذا القرار بناءً على الأسس القانونية".
ويتجاهل المرسوم الموقع من قبل ترامب اعتراف واشنطن بالاتفاق الخاص بأنشطة الدول على سطح القمر والأجرام السماوية الأخرى، الذي تم تبنيه بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في 18 ديسمبر/ كانون الأول 1979، الذي يعتبر أن استكشاف القمر واستغلاله حق للبشرية جمعاء، ويتم لصالح ومصلحة جميع البلدان، بغض النظر عن درجة تطورها الاقتصادي أو العلمي. أما مرسوم ترامب فجاء فيه أنه "يجب أن يكون للأميركيين الحق في إجراء البحوث التجارية واستخراج واستخدام الموارد في الفضاء الخارجي وفقاً للقانون المعمول به في الولايات المتحدة". كما أشار إلى أن الفضاء يعتبر من ناحية قانونية ومادية "مساحة فريدة للنشاط البشري. والولايات المتحدة لا تعتبره ملكاً عاماً"، وبالتالي، يجب أن تهدف سياسة البلد إلى "تحفيز الدعم الدولي لاستخراج واستخدام الموارد في الفضاء".
ومن الواضح أن عقلية رجل الأعمال ما زالت هي المحرك الأساسي لأفكار ترامب، الذي يجتهد يومياً في مؤتمرات صحافية لإقناع الأطباء بأنه يمكن استخدام عقارات معينة لعلاج المصابين بوباء كورونا بأرخص الأثمان، ساعياً إلى إعادة عجلة الحركة المالية في أسرع وقت ممكن من أجل التخفيف من خسارة تريليونات الدولارات وانكماش الاقتصاد، الذي قد يتسبب في خروجه من البيت الأبيض.
تنديد روسي
استدعت الخطوة الأميركية رداً روسياً رافضاً، مع تنديد وكالة الفضاء الروسية "روسكوسموس"، على لسان نائب مديرها العام، سيرغي سافيلييف، بـ"محاولات السيطرة على الفضاء الخارجي والخطط العدوانية للاستيلاء فعلياً على أراضي الكواكب الأخرى، والمرسوم يضرّ بالتعاون بين روسيا والولايات المتحدة". وأضاف سافيلييف: "هناك بالفعل أمثلة في التاريخ قررت فيها دولة ما البدء في الاستيلاء على الأراضي لمصلحتها. الجميع يتذكر ما نتج عن ذلك"، من دون أن يحدد ما يعنيه بالضبط. كما استهجنت الخارجية الروسية نية الولايات المتحدة، تعزيز تفوقها في قضية استكشاف الفضاء، مشيرة إلى أنه "من غير المفهوم ما هو القانون الذي تستند إليه الإدارة الأميركية في محاولتها منح نفسها الدور الرئيسي في صياغة جدول الأعمال العالمي بشأن مثل هذه القضية الدولية الحساسة"، ومؤكدة أن روسيا "تنطلق من مبدأ المساواة بين جميع الدول في استكشاف واستخدام الفضاء الخارجي للأغراض السلمية".
ولفت بيان مطول للخارجية الروسية الانتباه إلى اللحظة التي اختارتها واشنطن لنشر مثل هذا المرسوم، وذلك "في وقت يتم فيه استخدام الموارد السياسية والمادية والفكرية للبشرية، إلى أقصى حد، لحل المشاكل الأكثر إلحاحاً والمرتبطة بوباء كورونا". وأكدت الخارجية الروسية أن الاستيلاء على الفضاء الخارجي، بما في ذلك القمر والأجرام السماوية، من قبل هذه الدولة أو تلك يتعارض مع القواعد الحالية للقانون الدولي، لافتة إلى أن "موسكو على يقين من أن الاتجاه الناشئ لتوحيد النهج في سياسات الدول الفردية فيما يتعلق بإنشاء نظام للبحث والتطوير واستخدام الموارد الفضائية، ينطوي على مخاطر جسيمة للتعاون الدولي والتفاهم المتبادل، ولا سيما في اتجاه استكشاف الفضاء واستغلاله". كما شددت الخارجية الروسية على "الحاجة الملحة لأن يتخذ المجتمع الدولي إجراءات جماعية لمنع تحويل الفضاء الخارجي، بما في ذلك القمر والأجرام السماوية الأخرى، إلى ساحة للخلافات والصراعات الدولية". وخلصت إلى أنه "من هذا المنطلق، نحن مصممون على التفاعل مع الولايات المتحدة على أساس تجربة من استكشاف الفضاء المشترك، تراكمت على مدى عقود". في الوقت ذاته، حضّ رئيس لجنة مجلس الاتحاد للشؤون الدولية كونستانتين كوساتشيف، حلفاء الولايات المتحدة الأطلسيين للرد على خطط واشنطن لخصخصة الحق في استخراج الموارد الفضائية، ملوّحاً بأن "روسيا لن تلتزم الصمت حيال هذا الأمر".
انتهاك للقانون الدولي
وكانت الجمعية العامة للأمم المتحدة وافقت في ديسمبر/كانون الأول 1966 على معاهدة مبادئ أنشطة الدول لاستكشاف الفضاء الخارجي واستخدامه، بما في ذلك القمر والأجرام السماوية الأخرى. وفي يناير/ كانون الثاني 1967، تم التوقيع على الوثيقة من قبل الاتحاد السوفييتي وبريطانيا والولايات المتحدة. وانضمت إليها أكثر من 100 دولة حتى الآن. وتنص المعاهدة على أن الفضاء الخارجي "لا يخضع للاستيلاء الوطني سواء بإعلان السيادة عليه، أو بالاستخدام أو الاحتلال، أو بأي وسيلة أخرى". كما تنص على أن جميع المحطات والمنشآت والمعدات والسفن الفضائية على القمر والأجرام السماوية الأخرى "مفتوحة لممثلي الدول الأخرى الأطراف في هذه المعاهدة على أساس المعاملة بالمثل".
وفي عام 1979، تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة معاهدة فضاء دولية أخرى، يتطابق نصها حول أنشطة الدول على سطح القمر والأجرام السماوية الأخرى إلى حدّ كبير مع معاهدة عام 1967. وتنص الوثيقة الجديدة على الاستخدام السلمي الحصري للقمر والأجرام السماوية الأخرى، وتحظر أيضاً نشر أسلحة نووية وأي أسلحة دمار شامل في مدار القمر. كما تُحظّر إقامة منشآت عسكرية على القمر. أما استخدام القمر فهو "ملك للبشرية جمعاء لصالح ومصلحة جميع الدول بغض النظر عن درجة تنميتها الاقتصادية أو العلمية". وتم التصديق على هذه الوثيقة من قبل 18 دولة فقط، ولم تنضم روسيا والولايات المتحدة إليها.
وأوضح نائب رئيس مجلس الفضاء في أكاديمية العلوم الروسية، المدير العلمي لمعهد أبحاث الفضاء التابع للأكاديمية الروسية للعلوم، ليف زيليوني، أن الاتفاقات الدولية تحدّ حقاً من الاستخدام التجاري للموارد في الفضاء وتركز أكثر على البحث الأكاديمي، موضحاً أن "الوضع الآن يتغير، نحن بحاجة إلى قواعد جديدة، اتفاقية جديدة. وفي الولايات المتحدة، يعتقدون أنه بمجرد أن أعلنوا، فإن كل شيء سيكون الآن وفقاً لقواعدهم، لكن الأمر ليس كذلك". وذكّر زيليوني في تصريحات لوسائل إعلام روسية بمحاولات الولايات المتحدة السيطرة على مناطق القمر المحيطة لنقاط هبوط مركبتها الفضائية أبولو، موضحاً أن "الحديث حينذاك كان يدور حول مناطق صغيرة. أما الآن فإن الأمر أكثر جدية، وسيؤدي بلا شك إلى رد فعل على المستوى الدولي".
خطط ترامب لغزو الفضاء
وسبق توقيع ترامب على المرسوم، حملة كاملة للإدارة الأميركية تهدف إلى إعادة الولايات المتحدة إلى القمر. ففي مارس/ آذار 2019 طالب الرئيس الأميركي بإرسال الأميركيين إلى القمر "بأي ثمن"، مانحاً وكالة الفضاء الأميركية "ناسا"، مدة خمس سنوات للقيام بذلك. وطلب ترامب أيضاً من الكونغرس في مايو/ أيار 2019، توفير 1.6 مليار دولار إضافية لتمويل المشروع الفضائي. وكتب رئيس الولايات المتحدة على تويتر حينذاك: "في ظل إدارتي، سنعيد لوكالة ناسا عظمتها السابقة ونعود إلى القمر ثم نطير إلى المريخ"، وفي سبتمبر/أيلول الماضي، انضمت أستراليا إلى البرنامج.
لكن "العالم الفضائي" ترامب فاجأ العالم في يونيو/ حزيران الماضي بمهاجمة خطط "ناسا" التي تركز على تحديد القمر "الذي يعدّ تابعاً للمريخ" كنقطة الانطلاق إلى استكشاف المريخ والكواكب الأخرى، بدلاً من رحلات مباشرة من الأرض. مع العلم أن آخر هبوط على سطح القمر قام به الأميركيون كان في عام 1972. ومن اللافت أنه منذ عام 2011، بعد وقف برنامج "شاتل" الأميركي، لم تقم "ناسا" برحلات فضائية مأهولة. والآن، يتم إيصال رواد الفضاء والشحنات الأميركية إلى محطة الفضاء الدولية بواسطة الصواريخ الروسية. ووفقاً للرئيس التنفيذي لـ"ناسا" جيم برايدنشتاين، فإن أول امرأة ستهبط على سطح القمر بحلول عام 2024، ضمن برنامج "أرتيميدا"، مع أن الوكالة خططت في البداية للقيام برحلة مأهولة إلى القمر في عام 2028. وقد تم الإعلان عن هذه المواعيد في أوائل عام 2019 تحت ضغط إدارة ترامب.
شكوك
ومع ذلك، يشكك خبراء في قدرة وكالة "ناسا" على الوفاء بوعود القيادة السياسية في المواعيد المحددة. وكشف رئيس معهد سياسة الفضاء الروسي إيفان مويسيف، أن "الولايات المتحدة قد تنشئ محطة استقبال أولية على القمر، لكن من الواضح أن الأمر لن يتم بحلول عام 2024، ولكن بحلول عام 2028". ولا تقتصر طموحات ترامب الكونية على القمر. ففي 2019، حضّ الرئيس الأميركي وكالة "ناسا" على التركيز على إعداد مهمة إلى المريخ، ليصبح الأميركيون أول من تدوس أقدامهم سطح الكوكب الأحمر، كما كان الحال مع القمر. بدورها، ذكرت الوكالة أن أول رحلة مأهولة إلى المريخ يمكن أن تتم في عام 2033. ووفقاً لخطط واشنطن، يجب أن يصبح القمر مصدراً للموارد للولايات المتحدة. وكما قال نائب الرئيس الأميركي مايك بنس العام الماضي، فإن رواد الفضاء الأميركيين لن يزوروا القمر فحسب، بل سيباشرون استغلال موارده أيضاً. ويبدو أن ترامب اختار لحظة فاصلة في تاريخ البشرية في ظل غزو كورونا من أجل تبني مرسوم يطمح من خلاله إلى السيطرة على ثروات كثيرة من الذهب والمعادن، على حساب باقي سكان الأرض.
من جانبه، أشار نائب مدير معهد التاريخ والسياسة في جامعة موسكو التربوية، فلاديمير شابوفالوف في تصريحات لوسائل إعلام روسية، إلى أن الولايات المتحدة تتصرف بأسلوبها الخاص، موضحاً أن "القيادة الأميركية واثقة من أن أي أراض وموارد تهم الولايات المتحدة، يجب أن تصبح ملكاً لها، ومثل هذه السياسة لا تتوافق مع قواعد وروح القانون الدولي". وحذر شابوفالوف من سباق تسلح جديد، مطالباً بصياغة نظام قانوني خاص على المستوى الدولي لاستخدام الموارد في الفضاء، مع التشديد على أهمية "التعاون لا التنافس".