مرة أخرى ... احذروا الأموال الساخنة

23 ابريل 2019
الأموال الساخنة تدخل الأسواق الناشئة لتقتنص مكاسب سريعة(فرانس برس)
+ الخط -
حاول صندوق النقد والبنك الدوليان خلال اجتماعات الربيع في واشنطن الأسبوع الماضي تحقيق التوازن بين قلقهما من تباطؤ اقتصادي عالمي، يكاد يكون وشيكاً، وعدم الرغبة في إصدار تحذيرات واضحة، تكون لها آثار سلبية على الأسواق، فجاءت الرسائل من قاعات الاجتماعات بلا آفاق واضحة، فيما يخص الاستقرار الاقتصادي العالمي.

وبينما سيطرت حالة من التشاؤم على اجتماعات أول يومين، كما ظهر في تخفيض صندوق النقد لتوقعات النمو في العديد من مراكز الاقتصاد العالمي، أنهى وزراء المالية ومحافظو البنوك المركزية اجتماعاتهم بنبرةٍ أكثر تفاؤلاً، بعد تزايد التوقعات بالتوصل إلى تسوية "قريبة" للمنازعات التجارية بين الولايات المتحدة والصين، وتلاشي مخاوف حدوث فوضى "قريبة" بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

لكن كانت هناك رسالة واحدة واضحة خرجت من غرف الاجتماعات، ولم تنجح محاولات السيطرة عليها، وهي التحذير من الاستثمارات الخاملة، وهي الاستثمارات التي تتبع مؤشراتٍ بعينها، دون الاعتماد على نصائح وتوجهات مدير الاستثمار الخاص بها، وما يمكن أن يحدثه خروجها المفاجئ من الأسواق الناشئة، بفعل تغيرات الاقتصاد العالمي.

وحذر صندوق النقد الدولي خلال الاجتماعات الاقتصادات الناشئة والدول النامية، من تزايد اعتمادها على التدفقات الرأسمالية الواردة إليها، بعد تزايد جاذبية أسواق الأسهم والسندات فيها واستقرار عملاتها خلال العقد الماضي.

وذكرت أحدث الإحصاءات الصادرة عن صندوق النقد أن هذه النوعية من الاستثمارات، وتحديداً تلك التي تركز على الاستثمار في سندات الأسواق الناشئة، تضاعفت أربع مرات خلال السنوات العشر الماضية، لتصل إلى 800 مليار دولار، بالإضافة إلى 1.9 تريليون دولار (1900 مليار دولار) من الاستثمارات المرتبطة بمؤشر مورجان ستانلي للدول الخاص بأسهم الأسواق الناشئة.

وبينما يؤكد أن 70% من الاستثمارات العالمية التي يتم توجيهها إلى البلدان المختلفة تتأثر بالوزن النسبي للأسهم والسندات داخل المؤشرات الرئيسية، يلفت صندوق النقد النظر إلى أن هذه النوعية من الاستثمارات "تبخرت" من الأسواق التي كانت فيها وقت أزمتي الأسواق الناشئة في 2013، ثم في صيف 2018، بصورة تفوق ما حدث مع الاستثمارات الأخرى عدة مرات.

وأرجع الصندوق هذه الظاهرة إلى طبيعة الاستثمارات الخاملة، أو التي نطلق عليها في بلادنا "الأموال الساخنة"، التي تكون شديدة الحساسية للمتغيرات العالمية، فتركز بالأساس على معدلات الفائدة، والسياسات النقدية بصفة عامة، وسعر العملة المستثمر بها مقابل الدولار. بينما تركز الاستثمارات الأخرى، الأكثر استقراراً في أغلب الأحوال، على التطورات الاقتصادية في البلد المستثمر فيه تحديداً.

تحذيرات صندوق النقد لم تكن جديدة، فقد صدرت مثيلاتها من قبل في ظروف عديدة، كان أقربها خلال الصيف الماضي، في أعقاب تعرض أسواق وعملات الأرجنتين وتركيا والبرازيل لهزات عنيفة، مع ارتفاع معدلات الفائدة على الدولار، الأمر الذي نتج عنه "نزوح جماعي" للاستثمارات الأجنبية من تلك البلدان، بصورة كادت تأتي على الأخضر واليابس فيها، اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً. وبالتأكيد سمعناً مثيلاً لها أيضاً في عام 2013، كما في التسعينيات، وقت أزمة نمور شرق آسيا.

من الواضح إذاً أن تدفقات الأموال نحو أسواق أسهم وسندات بعض البلدان يجب ألا تؤخذ على أنها شهادة لنجاح السياسات الاقتصادية في بلد ما، أو أنها تعبير عن قوة تلك السوق، إلا في الحالات التي يثبت فيها أن تلك الأموال جاءت لتبقى، ولم تجئ لتقتنص مكاسب سريعة، ناتجة عن فرص اعتدنا حدوثها في الأسواق النامية والناشئة غير محكمة التنظيم بين الحين والآخر، ثم تعود لبلادها فور تحقيق المكاسب، أو عند اختفاء الفرصة، بفعل التغيرات في الأسواق العالمية.

على مدار الشهور الأربعة الأخيرة، احتفل البنك المركزي المصري بعودة رؤوس الأموال "الساخنة" إلى سوق الأذون والسندات المصرية، وسارع بتقوية الجنيه، بصورة يؤكد كثير من المتعاملين في السوق المصرية أنها لا تتناسب مع حجم الأموال الواردة بالفعل إليها.

فارتفع الجنيه المصري أمام الدولار بنسبة تتجاوز 3%، على الرغم من استمرار ورود أنباء ارتفاع حجم القروض الخارجية بصورة غير مسبوقة في التاريخ المصري، وتزايد عجز الموازنة بفعل تضخم نصيب خدمة الدين وأقساطه فيها، وأيضاً عدم التوصل إلى علاج حقيقي لخلل ميزان المدفوعات.

ارتفاع الجنيه أمام الدولار يسعدنا جميعاً، ويحسن مستويات معيشتنا نحن وأهالينا، ويزيد القيمة الحقيقية لمدخراتنا، لكن لا بد أن يكون هذا الارتفاع حقيقياً، وناتجا عن أسباب منطقية، لا عن استغلال لقطات سريعة في الحالة الاقتصادية، ثم المبالغة في تقدير حجم ما توقعه من أثر. 

وبدلاً من اندفاع البنك المركزي، عن طريق أذرعه في السوق، نحو رفع سعر الجنيه أمام الدولار، كان يتعين عليه أولاً أن يبحث في طبيعة الأموال الواردة لمعرفة نوعيتها، والفترة المتوقع بقاؤها فيها في السوق المصرية، ومن ثم تقدير ما تسببه من تقوية للجنيه.

كنا نتمنى من البنك المركزي أن يدرك أن الأموال التي جاءت إلى مصر خلال الربع الأول من العام لم تأت بسبب تغيرات هيكلية في السوق المصرية، أو بسبب علاج الخلل في ميزان المدفوعات أو الموازنة المصرية، وإنما جاءت كجزء من هجرة جماعية نحو الأسواق الناشئة، وأسواق الخردة Junk بفعل ارتفاع شهية المخاطر، بعد تعديل البنك الفيدرالي الأميركي سياساته والامتناع عن رفع معدلات الفائدة، خاصةً أن أذون وسندات الخزانة المصرية تدفع حالياً خامس أعلى المعدلات في العالم، بعد الأرجنتين وفنزويلا وتركيا واليمن.

يقول صندوق النقد إن كل 2 مليار دولار كانت تخرج من الأسواق الناشئة بفعل صدمة معدلات الفائدة على الدولار، أو أي تغييرات في العوامل الخارجية غير المرتبطة بسوقٍ بعينها، في 2013، سيقابلها ما يقرب من 11.5 مليار دولار في وقتنا الحالي، الأمر الذي يعكس التأثير المتزايد لتلك الأموال على أسواقنا، وهو ما يستلزم توخي أقصى درجات الحيطة والحذر عند التعامل معها.

المساهمون