مدينة عشقي

16 مارس 2017
+ الخط -

من يعشقُ السفر يدركُ أنَّ مدينةٍ ما، في مكانٍ ما، تشبههُ إلى حدٍّ كبير. يجدُ فيها ذاته بعيداً عن ضجيج الدنيا، وزحام الحياة. ومدينتي التي عشقتها، وشابهتني هي مدينة رسول الله عليه الصلاة والسلام. اجتاحتني بالسكينة، مذ أقبلتُ عليها، أرى منارات المسجد النبوي من بعيد، وكأنَّ روحي سكنت حواريها، قبلَ أن يولدَ جسدي، ودروبها تحفظ خطواتي، وأعرفها.


وكأنَّي صلّيت فيها كلَّ سبتٍ من حياتي، ووقفت على جبل الرماة أشاهدُ أحداً وقت المغيب مرات ومرّات. شعورٌ بالألفة لا يشبهه شيء، هنا مشى رسول الله، وهنا وقف معه أبو بكر وعمر. من هنا خرجت جيوشُ النور تعيدُ الحياة إلى الحياة، ومن هنا، انطلق نداء الحق لا يمنعه ظالم أو فاجر وهنا، فقط، بنيت أول وآخر مدينة فاضلة، كاملة في حياة البشر.

لا تتوقَّفُ الحياة عن الحركة ليلَ نهار، وقمّة الحياة بالنسبة لي، هي قبيل الفجر بساعة. أمشي مع جموع الناس وقت السحر، يحدونا صوت المؤذّن للقيام. بشرٌ من كل مكان، وقلوب تجمع كل شيء. دقائق ثمنها لا يقاس بما نعرفه في الدنيا، وكأنها اقتطعت من الجنة. كل التفاصيل، حينها وبعدها، تبدو ممتدّة كعمر بأكمله.

رغم كل الضجيج والزحام، تبقى السكينة التي أراها حتى في تقافز العصافير أمامي، وهي تجمع بأمانٍ ما تناثر من فتات على السجادات المفروشة خارج الحرم. في سكينة، استندُ إلى حائطه بعد الفجر حتى الشروق الذي تزداد وتيرة الحياة بعده، فأعود لأرمي بنفسي في زحام الداخلين إلى الروضة الشريفة. أتحرَّكُ وسط أمواج الزائرات المتلهّفات للصلاة هناك، وزيارة قبر النبي الحبيب.

أخرجُ بعدها، اتَّبِع خطّ النور الذي ينبعثُ من السقف المفتوحِ فوقنا، وكأنَّنا نسيرُ من السماء إلى الأرض. وخارج الحرم، يوقفني الطريق كلّ يومٍ أمام النصب التذكاري الذي يتوسط ساحة الفنادق، تتجمَّع الحمائم حوله لتأكل ما يلقيه البشر لها من طعام، وما يسكبونه لها من مياه. تحلّقُ بامتنانٍ وألفةٍ في مشهد يأسر القلوب بجماله.


تفاصيلٌ صغيرةٌ وكثيرة، لكنّها تتجمّع لترسم ملامح المدينة، حتى حين تزور البقيع، أي المقبرة التي لا تستوحش منها أبداً، بل تظل مسمّراً أمام قبورها، تشعر بالحب والشوق الجارف نحو صحابة رسول الله وأهله الراقدين فيها، تتمنى لو تعود لهم الحياة مرة أخرى لتعيشها بينهم.
دلالات
avata
avata
مها محمد
مها محمد

مدونات أخرى