ليتها تعود

26 ديسمبر 2016
+ الخط -



أريد أن أنفض ذاكرتي من كل ما يوجعها، ومن منا لا يريد أن يفعل ذلك.... ربما لو فعلناها لن يتبقى فيها الكثير كي نتذكره..


منذ طفولتي، وفي قريتي الصغيرة النائية كانت وسائل الإعلام حينها، التلفاز  والمجلات، تخبرنا بما يجري في العالم حولنا بوتيرة متقطعة، لم نكن نعرف كل شيء، وربما تعرفنا على الأشياء صدفة.


قضية فلسطين لم تكن ضمن الصدف... كانت الأكثر حضوراً ... الأقصى ... مذابح دير ياسين ... صبرا وشاتيلا، وتلك الطفلة الصغيرة التي تسير بين الحرائق والجثث، تحمل لعبتها...

صورٌ لا يمكن أن تنفضها ذاكرتي لأنها أول صور علمتني أن العالم أكبر بكثير من حدود قريتنا، وحياتنا الساكنة... علمتني الخوف من الفقد، وأن في الأرض شروراً لا يستطيع قلبي الصغير المولود على الفطرة كنبتة صحراوية، أن يستوعبها..

صورٌ علمتني كيف يكون الاحتلال... كيف يكون الموت قتلاً... وكيف يكون العيش قهراً، وكيف أن الظلم يسير مجسداً في الأرض لأن هناك من يملك دبابة وقنبلة تخرس كل شيء، حتى الضمائر. كان أصحابي يلعبون، وكنت أفكر كيف أقاتل الإسرائيليين إذا ما غزوا قريتنا.

كنا نكبر ومعرفتنا ولو بالصدفة تزداد، هناك ما يخبئه الزمن... من بين ركام مجلات تم التخلص منها في مدرستنا، عرفت أفغانستان والجهاد هناك.. صرت أتتبع خيط النور ذاك... لأول مرة أشعر حقاً كيف يطير الإنسان من الفرح حين عرفت أن الأفغان هزموا السوفييت وطردوهم من أرضهم...

إذاً ففلسطين التالية كما قال عبد رب الرسول سياف، كنت أحفظ أسماء أمراء الجهاد كلهم حينها... ولأول مرة أشعر كيف ينكسر الإنسان حين يشعر بخيبة الأمل حين انتهى ذلك الجهاد الفردوسي إلى قتالٍ أهلي.. كنت أصغر من أن أفهم ذلك.. لكن الصدمة أفهمتني ألا نصدق الكبار دائماً، وأن هذا الوجع يبدو لا نهاية له، ممتد بامتداد شتاتنا.. وتفرقنا.


ثم أيضاً كبرنا..... وتتالت بعدها المصائب والجراح.... أَيُّهَا نصُد؟  أَيُّهَا نبكي؟ بدءًا من البوسنة وانتهاء بحلب! في زمن لم يعد فيه للمعرفة صدفةً، أي مكان....

أصبحنا نرى كيف يعذب الإنسان وكيف هي صرخة الألم، وكيف تكون رائحة الدم، وكيف يباد الناس في منازلهم، وكيف هي الفجيعة في الوجوه، وكيف يكون النزوح والتشرد والجوع والصقيع.. والمخيمات البائسة...

صرنا نرى ضمائرنا تتكسر وجعاً على عكازات عجزنا، فصرنا نهرب حتى من أنفسنا... 
ليت زمن الصدف يعود كي يمنحنا بعض الراحة من كل تلك البشاعات التي يرتكبها البشر، في زمن الحضارة المزعومة.

 

 

avata
avata
مها محمد
مها محمد

مدونات أخرى