مدينة العصافير المُقيَّدة

05 ديسمبر 2014
بتنا بحاجة لتقييد العصافير (رسم زياد توبة)
+ الخط -
مدينةٌ خرجت من الحرب إلى السلم المأزوم. خرجت إلى زمن الحروبِ المتفرِّقة. يتمثّل هاجسي بمشهدٍ سينمائي كتلك المشاهد التي يركبها المخرجون في أفلام الرعب. خلفية داكنة وإنارة خافتة وخيالات متموجة وأصوات تزيد وتيرة القلق. أشعر أنّ الأبنية الإسمنتية المنثورة مدينة لن تتوانى لحظةً عن الخروج عن صمتها لتمشي.

كأنّها ستحبو بنفسها نحو البحر عند أطراف المدينة. لقد ضجِرت. ستقف برهةً تتأمَّل السحاب المستريح عند الأفق. سترمي نفسها معلنةً نهاية الحرب والسلم. ستنام المدينة عاريةً هذا المساء.

تحلّق طائرة الركّاب على علو منخفض فوق بيروت قادمةً من صوب البحر. تتّجه إلى فسحةٍ مترامية على أطراف المدينة. يبدو المشهد من فوق لمربعات الباطون المتلاصقة كلعبة "الليغو" حيث بعثر مكعباتها طفل في طور النمو. مربّعات، مستطيلات، وأشكال هندسية عشوائية تتسلّق فضاء المدينة تناجي الريح العابرة. أشباح الإسمنت تجوب سماءنا. حرش بيروت رئةٌ وحيدةٌ لمدينة تكتظّ بالأنفاس.

مدينتي تُحسن فعل التقنين. تقنّن الماء والكهرباء، لا بل تقنّن الهواء. مدينتي تخرج من الحرب إلى السلم، ثم إلى الاختناق. يصدح الراحل وديع الصافي: "رح حلْفك بالغصن يا عصفور"، لكن مهلاً، أي غصنٍ هذا؟ لقد أصبح للعصفور ذاكرة أخرى. اسأله عن علاقته بالشجرة التي تنقرض. لقد نسي العصفور الغصن. ذاكرة العصفور تعرف أسلاك الكهرباء. تعرفها لدرجة أنك تخال العصافير عناكب جاثمة على شبكات عملاقة. ذاكرته تعرف مُخلَّفات الحرب. تعرف تلك الثقوب على جدران الأبنية، التي أحدثتها رشقات النار بين المتقاتلين. ذاكرة العصفور أُسقطت منها صورة الشجرة. لقد بتنا بحاجة لتقييد العصافير وشدّها نحو مدينتنا، تحسباً من هجرتها. مدينةٌ رماديةٌ شاحبة لا تملك القدرة على المراكمة بغية تطوير أي شيء. كأنَّها مصفاة تعبر المياه من خلالها دون أي أثر. مدينةٌ بعمارةٍ لا تنتمي إلى أية هوية محدَّدة. عمارةٌ متهالكة وعمارات زجاجية حديثة هشة. أحياءٌ مرمّمة تصطنع التأنّق وأحياءٌ منسية غابرة ترزح تحت يافطة "حي ذو طابع تراثي". مدينة تسعى على الدوام إلى تقعيد الشواذ فيها. لا قاعدة للإعمار ولا قاعدة لنظام السير ولا للتشجير وابتداع المساحات العامة. مدينة تخالف قوانين الوجود، فما بالك إذا خالفت قواعد التنظيم؟ مدينة تلهث بسكانها وبما حملت على ظهرها.

تقف الأبنية الإسمنتية متراصفةً متلاصقة. تدبّر حيلةً للخروج من المصير المحتوم. تقف كالأصدقاء في محنةٍ جنباً إلى جنب. تهمس ليلاً فيما بينها عن مخاطر هذه المدينة. الأبنية تخاف هاجسي، هاجس الانتحار. تراها تتكاتف وتتماسك بأسلاك الكهرباء. تظنّ أنّ هذه الأسلاك وكابلات الصحون اللاقطة هي أذرع الأبنية. أذرع بها تتعانق. أبنيةٌ ترتدي أثواب الإعلانات التجارية لتستر عورة التقادم وقبح المدينة. أبنيةٌ تتحيّن الفرصة المناسبة لنزهة أخيرة صوب البحر.
دلالات
المساهمون