مدينة السلام... لتعليم لاجئي سوريا بالأردن

26 يناير 2015
لاجئي سوريا يتعلمون في مدينة السلام( العربي الجديد)
+ الخط -


يقولون إنه من رحم المعاناة يولد الإبداع ويولد أيضاً الأمل، ومن رحم الحرب يُخلق السلام، يقولون إن "التعليم" هي وسيلة المهمشين للتمكين"، وقالوا قديماً أيضاً: "الحِلم بالتحلّم والعلم بالتعلّم"، كل هذه المقولات رأت تطبيقاٌ عملياً لها في تجربة "مدينة السلام" التعليمية التي تمت وسط الأطفال السوريين اللاجئين بمدينة الزرقاء الأردنية، شرق العاصمة عمّان. 

من أميركا إلى الأردن
بدأت القصة من مجرد فكرة تدور في رأس فتاة لا تتعدى الإثنين وعشرين عاماً، اسمها نور دقماق، الفتاة السورية، التي أدركت كيف أن لأساليب التعليم الحديثة التي عهدتها في طفولتها من خلال المدارس الأميركية ثم بعدها من خلال الجامعة الأميركية، أثراً كبيراً في تنمية مهارات التفكير، وبصفة خاصة التفكير النقدي والإبداعي لدى الأطفال، وكانت تدرك الفرق بين أساليب قائمة على الحفظ والتلقين وتلك القائمة على مشاركة الأطفال في العملية التعليمية وتحترم آراءهم وأفكارهم وتعمل على تطويرها وتنميتها بأسلوب مدروس ومخطط. 

من هنا كان لدقماق حلم بأن تعود من أميركا إلى إحدى الدول العربية والعمل فيها كمعلمة تنقل إلى الأطفال شغفها وحبها للتعليم. وبالفعل، وبالرغم من حداثة سنها وتوافر فرص العمل المناسبة لها في الولايات المتحدة الأميركية، عادت دقماق إلى الأردن لتعمل معلمة بإحدى المدارس، وهناك حاولت الوصول للأطفال اللاجئين من السوريين، وقد عرضت فكرتها التي تريد تنفيذها على مركز التوعية والإرشاد الأسري في الزرقاء، ووافقوا عليها ووفروا لها المكان والموارد والأطفال. 

تجربة تعليمية مختلفة
تؤمن نور بأن أي مجتمع يعكس حال الأفراد الموجودين فيه. يقول الله عز وعلا: "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ"، وبهذا المنظور إذا أراد المجتمع التطور والنمو، فيجب أن يركز على أفراده ويوفر لهم بيئة تسمح بنموهم بشكل سليم، من خلال تعزيز الخُلُق الحسن ومعالجة التصرفات السلبية والمؤذية. 

ولما كان كثيرون يعتقدون أن جواب مسألة بناء وتطوير الفرد هو من خلال "التعليم"، إذن فكلمة السر تكمن في التعليم، ولكن ظلت "نور" تتساءل عن "أي تعليم نتكلم؟"، لأن الكيفية والطريقة التعليمية التي يتم من خلالها التعامل مع الأطفال لا يمكن التغافل عنها أو التقليل من تأثيرها... فمثلاً في دولنا العربية جمعاء تكمن الكيفية التعليمية في الحفظ والترتيل والتلقين، لا مجال هناك للإبداع أو التفكير أو القيام بالتجارب أو التعمّق في الأشياء. ووضع الأطفال اللاجئين التعليمي لا يختلف كثيراً عن وضع باقي الأطفال في الدول العربية، حيث يتم التعامل معهم بالمنهج نفسه الخاص بضرورة الاستذكار وإلا سيكون العقاب الضرب، غير آبهين بما مر به هؤلاء الأطفال من ظروف قاسية تستدعي التعامل معهم بشكل خاص.

ومن أجل هذا جاءت تجربة "مدينة السلام" مختلفة وخارج الإطار المعتاد والمتعارف عليه للعملية التعليمية المركزية التي ترى المعلم مركزاً، مهمشةً بذلك دور وأهمية المتلقي (المتعلم).
من هنا كانت تجربة مدينة السلام التي تم تطبيقها وتنفيذها مع الأطفال السوريين الموجودين في الأردن بهدف إعادة الثقة في نفوسهم وزرع الأمل لديهم في المستقبل، وإبراز أهمية رأيهم كأطفال. فالتجربة تتيح لهم التفكير في ما يريدون فعله والمهنة التي يحبون العمل فيها، والصورة التي يريدون المدينة أن تكون عليها، والخدمات التي يرونها الأهم والأولى بالبدء بها أثناء بناء المدينة... كل هذه الأمور علمتهم كيفية التعبيرعن أنفسهم، إضافة إلى تعليمهم السلوكيات والأخلاق الحميدة من خلال طريقة معالجة المشكلات التي يعيشونها داخل مدينة السلام. 

"مدينة السلام" مشروع يهدف إلى توفير بيئة مناسبة، مبتكرة وغير تقليدية للأطفال، حيث يتم ربط العملية التعليمية بصورة تطبيقية بحياتهم اليومية، من خلال دمج كافة العلوم بأنواعها المختلفة، من الهندسة والعلوم والاقتصاد والفن والحوار والقانون، وغيرها، في تلك العملية التربوية التعليمية. "السلام" هوالاسم الذي اختاره الأطفال اللاجئين لمدينتهم التخيّلية التي صنعوها من ورق الكرتون المقوى. الأطفال تراوحت أعمارهم بين الثامنة والثانية عشرة، وتم بالفعل تطبيق الفكرة بصورة عملية مع الأطفال في شهر فبراير/ شباط 2014 في مركز التوعية والإرشاد الأسري في الزرقاء بالأردن. 

بناء المدينة والفرد
ومن أجل تنمية مهارات التفاوض وقبول الآخر والمشاركة الإيجابية، تم تقسيم الأطفال إلى مجموعات تتشارك عملية التفكير والتخطيط والتنفيذ بصورة جماعية. وقد ساعد العمل الجماعي الأطفال بصورة كبيرة على تنمية مهارات التعامل مع الآخر، بالرغم من الميل لحل المشكلات بصورة عنيفة أو بصورة سلبية، ومن ناحية أخرى قامت كافة الأنشطة على الحوار والنقاش من أجل التوصل لحلول وأفكار تخدم عملية "بناء المدينة". 

ولأن المدينة، مثل باقي المدن على أرض الواقع، تحتاج إلى أبنية وشوارع وإلى خدمات وإلى سلع، أخذ الأطفال في التفكير في قضايا البناء والتخطيط، وفي قضايا توزيع المهن والأدوار، كما توصل الأطفال إلى ضرورة أن تكون للمدينة عملة نقدية للتعاملات التجارية... وتعرفوا من خلال ذلك على دور المصرف وضرورة أن يعمل سكان المدينة لأجل كسب المال. وكانت كل هذه الأمور فرصاً ذهبية لتعلّم كيفية ممارسة (أو عدم ممارسة) الصدق والأمانة وحفظ الحقوق، وساعد ذلك على أن يقوم الأطفال بالتفكير بصورة مختلفة ـ بصورة أشمل وأعمق ـ بدأ الأطفال يدركون التشابكات والعلاقات بين المهام والقضايا، وبدأوا يدركون أن لكل مهمة نتائج ومآلات لا بد من التفكير فيها. 

بالسؤال كانت البداية
في البداية كان السؤال الموجه إلى ثلاثين طفلاً: "ما رأيكم أن نقوم ببناء مدينة كاملة لنا؟"، فيرد الأطفال: "ما المقصود أستاذة؟"، لتأتي الإجابة: "لدينا هذا المكان ونستطيع أن نجتمع فيه بأيام معينة وأوقات معينة ونحوله إلى مدينة خيالية لنا ونمارس فيه أعمالاً وأشغالاً، كما يحصل في أي مدينة في العالم".
"حسناً…".
"حسناً… ماذا نحتاج في المدينة أصلاً؟".
يقترح الأطفال ما يمكن أن يقترحوه، "نحتاج إلى مشفى.. نقود.. مصرف.. مطعم.. شركات.. شرطي … إلخ". 
يتم تأسيس المدينة بتوزيع الأدوار حسب اختيار الأطفال ومن دون إجبار أي طفل بانضمامه أو عدم انضمامه لمجموعةٍ أو مهمةٍ ما. ويتحول الأمر لموضوع تأسيس الفرق بشكل سليم، وكل فريق يمثل شركة تبيع منتجات أو خدمات، أو منظمة تقوم بمهمات معينة. ومن ثم تأتي أهمية الحوار والنقاش مع الأطفال عن واجباتهم وحقوقهم في المدينة، بمعنى أوضح: أن يكون كل طفل على بيّنة في ما يتعلق بالعمل مع مجموعته، وأهدافها، والمشاريع المناطة بهم، وفي التعامل مع الأطفال الآخرين.. من المهم أيضاً أن يتعرف الأطفال على حقوقهم في المدينة، وعلى حقوق الآخرين.

توجد عدة نشاطات تساعد الفرق على التفكير في مهنتهم ومهماتهم، مثل كتابة قائمة للأدوات التي يحتاجونها، ولماذا، وكتابة قائمة ماذا ستوفر المجموعة/ الشركة للمدينة، التفكير باسم وصنع واجهة للمجموعة/ الشركة، التخطيط لإعلان مسرحي يقدمونه لسكان المدينة، ويستمر الأطفال سكان المدينة بالتخطيط حتى تكون معظم الفرق مهيأة لبدء العمل بجد.

التفكير محوراً
يعدّ "التفكّر" والتركيز على تنمية هذه المهارة من أهم الأمورالتي قامت عليها التجربة التعليمية، وذلك لأن التفكّر أفضل الوسائل للتعلّم الذاتي (المستمر)، وهناك العديد من الأمثلة التي يمكن الإشارة إليها للكيفية التي تم التعامل بها مع "مهارة التفكر". 
كان في المدينة تاجر (أي طفل قرر أن يكون دوره تاجراً)، يبيع أنواعاً مختلفة من الخضروات، وله محال متعددة، بأماكن مختلفة، يتم توجيه الطفل لتسجيل مبيعاته والأرباح التي يجنيها بصورة يومية مع نهاية اليوم، ويوجه الطفل إلى التفكير في العلاقة بين حجم المبيعات وعملية تحديد السعر، حجم المبيعات والربح، حجم المبيعات والطقس، ومكان البيع... ومع كل يوم يمر، سيتعلم التاجر شيئاً عن السوق وعن زبائنه، ويستخدم هذه المعلومات ليأخذ قرارات أفضل في الأيام القادمة.

وهناك أسئلة (يسميها التربويون بالتأملية)، يتم إلقائها وذلك لتحفيز التفكر مثل: ماذا تعلمتُ اليوم؟ هل سعدت اليوم من عمل قمتُ به؟ لماذا أسعدك ذلك؟ هل سعدت اليوم من عمل قام به أحد أصدقائك؟ هل انزعجت اليوم من عمل قمتُ به؟ هل انزعجتُ اليوم من عمل قام به أحد أصدقائي؟ لماذا أزعجك ذلك؟ التفكّر في ما تم ولمَ تم والتعلّم من كيفية الخطوات التي يتخذها الفرد بصورة تلقائية هي في حد ذاتها من أدوات واستراتيجيات التعلّم الهامة. 

الدستور وحل النزاعات
ومن ضمن الأمور الهامة التي تمت في "مدينة السلام" كتابة دستور أو "اتفاق" يضم بعض القوانين، تحاور الأطفال حول ما يحدث في حال عدم التزام أحد السكان بالقوانين، ولكن يبقى الأمر مطروحاً بإيجابية مع التوقع أن الجميع سيحاول أن يلتزم بالقوانين احتراماً لزملائه.
ومع مرور الأيام، تطورت المدينة، ومن الطبيعي أن تحصل بعض النزاعات بين سكان المدينة. لكن تعلّم الأطفال أن النقاش الجماعي الهادف عادة ما يكون الحل الأمثل لمثل هذه النزاعات، كان الأطفال يجلسون في بداية كل يوم في دائرة، ويترك لكل طفل المجال لأن يقول ما يريده، وأمكنهم المشاركة بالعديد من القصص التي حصلت في المدينة، وكيف أثّرت عليهم أو على تفكيرهم، ويمكنهم أن يقرأوا جزءاً ممّا كتبوه في دفاترهم. من خلال هذه النقاشات، يتدرب الأطفال على الاستماع للآخرين وعلى التفكر بالأمور بأكثر من منظور، ويتمرنون على حل النزاعات ليس بالغضب والعنف بل بالنقاش.

التعامل مع هذه النزاعات كان من الأمور المفيدة، لأنه يعلّم الأطفال كيفية التعامل مع المشاكل في الحياة. ففي إحدى المرات على سبيل المثال، حينما صنعت إحدى الورش طائرة للطيار، حدثت مشادة بسبب عدم الاتفاق على الأجر، وعند مناقشة المشكلة جماعياً، قرر سكان المدينة أن عليهم الاتفاق على الأجر المناسب قبل بدء العمل، وهذا ما يسمى بالعقد الذي ينبغي كتابته وتوقيعه.

المرونة وتحمّل المسؤولية
من الهام أيضاً داخل المدينة، الاستعداد لتقبّل اختيارات الأطفال، وإن أدت إلى تغيّر ـ كبير أو صغير ـ في الخطة المعدّة، وأن يحس الأطفال أن اختياراتهم ذات قيمة، حتى وإن أدت إلى نزاعات، بما أن جزءاً أساسياً من المدينة قائم على اختيارات الأطفال وتحميلهم مسؤولية هذه الاختيارات. وبالتالي تعلّم الأطفال أهمية المرونة في التنفيذ، وأن الخطط ليست مقدسة، ولكن السلوكيات واحترام الآخرين من الأمور التي لا يمكن التنازل عنها للتعايش المشترك.
وكأي مدينة يكون لها اسم وشعار ونشيد، طُلب من الأطفال التفكير في كل هذه الأمور، وهكذا ولد الشعار الذي اختاروه لمدينتهم: 

جينا وجينا وجينا.. جينا عالمدينة
مدينتنا منحبك متل ما بتحبينا
مدينة الطيور صغنا لها دستور
مدينة السلام نحب الابتسام
ونرفع السلام في هذه المدينة

انتهى مشروع مدينة السلام بعد ثلاثة أشهر في مايو/ أيار 2014، كانت تذهب خلالها دقماق وبعض أصدقائها يوماً واحداً في الأسبوع إلى مدينة الزرقاء الأردنية، وعند سؤالها عن النتائج والدروس المستفادة من التجربة، حكت لنا دقماق عن تجربة في غاية الأهمية، حينما قام أحد الأطفال، واسمه حمزة، كان يعمل شرطياً بالمدينة، قام باستغلال منصبه ليأخذ كل يوم صبية أو صبياً ليزج بهم في السجن ليس لسبب سوى أنهم لا يحترمونه. وهنا تدخلت دقماق لتطلب منه تقريراً مفصلاً عن كل حالة تدخل السجن، يوضح في التقرير ما الجرم أو الذنب الذي ارتكبه المسجون ومَن هم الشهود على هذا الجرم، بعدها لم يجرؤ الشرطي على وضع أي شخص في السجن، لأنه عرف أن هناك منظومة من العدالة يجب أن تطبّق، وتحوّل عمل الشرطي إلى رفع تقارير عن الإنجازات الإيجابية لبعض المحال والورش والأفراد. وهذا يفسر أهم نتيجة لاحظتها وهي قلّة العنف بشكل كبير بين الأطفال في نهاية المشروع مقارنة بالبداية، وذلك نتيجة للحوار والنقاش الذي ساد المدينة. 

أما بالنسبة لدقماق، فقد اكتشفت على المستوى الشخصي، كمَّ الخير والأخلاق الحميدة الموجود لدى هذه الفئة من الأطفال والتي يجب استثمارها والعمل عليها. وتنصح دقماق بعدم التعجل للعمل معهم إلا بوجود خبراء ومتخصصين نفسيين، حتى يحددوا على وجه الدقة مشاكلهم ويتعاملوا معها بشكل صحيح.

المساهمون