مخالفات البناء: اعتقالات جماعية ومحاكمات عسكرية في مصر

05 سبتمبر 2020
تقاعست المحليات عن إزالة المخالفات (Getty)
+ الخط -

بعد أيام معدودة من تهديد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بـ"نزول الجيش إلى جميع القرى لضبط مخالفات البناء"، وتهديده الآخر للمسؤولين التنفيذيين الذين لا يستطيعون تنفيذ تعليماته بهدم المباني المخالفة لأسباب اجتماعية أو دينية، أو من لا يستطيعون جمع أكبر قدر ممكن من المبالغ المالية الخاصة بطلبات التصالح بقوله "إما تكونون رجالاً أو شيئاً آخر"، ومطالبته المحافظين ومديري الأمن مساعدي وزير الداخلية الذين يفشلون في تنفيذ تلك التعليمات بالاستقالة الفورية، مثُل أمام النيابات العسكرية على مستوى الجمهورية آلاف المواطنين الذين ألقت قوات الأمن القبض عليهم على مدى الأيام الخمسة الماضية، في تصعيد كبير لوتيرة التنكيل بالمواطنين المتهمين بارتكاب مخالفات لقوانين البناء والبناء على الأراضي الزراعية.

وقالت مصادر حكومية وقانونية مطلعة على هذا الملف ومشاركة في التحقيق ببعض الوقائع في مختلف المحافظات، لـ"العربي الجديد"، إن النيابة العسكرية قررت حبس الآلاف من المواطنين في كل المحافظات من دون استثناء "حتى بروز جديد في ملف المخالفة"، بحسب نص القرارات التي أصدرتها النيابات المختلفة. وتم إخلاء سبيل المئات من المواطنين الذين استطاعوا تدبير مبالغ التصالح أو غرامة المخالفات، بينما بقي في الحبس جميع المواطنين الذين لم يستطيعوا دفع المبالغ المالية، أو المتورطين في حالات بناء على أراضي الدولة ولم تتم إزالة المنشآت، ومنحت بعض النيابات العسكرية هؤلاء المتهمين فرصة تسوية القضية بالإزالة خلال فترة الحبس الأولى المقررة بخمسة عشر يوماً. وأضافت المصادر أن هناك تعليمات بإحالة المتهمين إلى المحاكمة بسرعة في حال عدم تمكنهم من الدفع وإزالة المنشآت المخالفة، وأن النيابات أخبرت المحامين والمتهمين بأن فترة الحبس الاحتياطي في هذه القضايا لن تطول، وربما لا يتم تجديد الحبس أكثر من مرتين.

النيابة العسكرية قررت حبس الآلاف من المواطنين في كل المحافظات من دون استثناء حتى بروز جديد في ملف المخالفة
 

وأوضحت المصادر أن النيابات العسكرية لا تملك المعلومات الكافية عن ملفات القضايا لعدم وجود أي لجان معاينة قضائية أو محلية يمكن الاعتماد عليها في كل واقعة على حدة، ولذلك فهي تعتمد فقط على محاضر التحريات الأمنية وملفات المخالفات المحالة من دواوين المحافظات، بناء على تقارير المحليات. وتسبّب هذا الأمر في قصور كبير بتفاصيل المخالفات، إذ أحيل عدد كبير من المخالفات التي تم التصالح فيها بالفعل، لكن لم يتم تحديث بياناتها لدى المحافظات، وكذلك أحيلت عشرات الوقائع التي تقاعست فيها المحليات عن إثبات الوقائع الجديدة أو امتناعها عن إزالة المباني المخالفة لأسباب فنية لا يتحمّل المواطنون مسؤوليتها.
وذكرت المصادر أن تولي القضاء العسكري مهام التحقيق والمحاكمة في هذه المخالفات بدأ بشكل معلن مطلع العام الحالي، بتوجيهات تنفيذية من السيسي من دون سند قانوني أو دستوري، بهدف تسريع الإجراءات، ولذلك اكتفت الحكومة ممثلة في وزارة التنمية المحلية المشرفة على المحافظين، بين شهري إبريل/ نيسان ويوليو/ تموز الماضيين، بإحالة حوالي 30 ألف مخالفة، معظمها كانت تعديات على أراضي الدولة الصحراوية التي نقلها السيسي خلال الأعوام الخمسة الماضية إلى ملكية القوات المسلحة، فأصبحت في حكم الأملاك العسكرية. أما الاعتداءات على الأراضي الأخرى من زراعية وصحراوية ومملوكة للأوقاف والمحافظات فكانت تحال إلى النيابة العامة حتى لا تصبح التحقيقات أو المحاكمات باطلة.

لكن ما حدث في الأيام الماضية هو إحالة كل القضايا العالقة بلا استثناء للقضاء العسكري، وهو ما فسرته المصادر بأنها رغبة من المحافظين في إبراء ساحتهم وسرعة التصرف في الملفات التي أمامهم، وهو اتجاه جديد يكرس سلطة الجيش على مختلف إجراءات الملف، مع وضع ما سيستجد من خطوات في الاعتبار، مثل إسناد مهمة الفحص والبيانات لمنظومة المعلومات المكانية التي يديرها الجيش.
غير أن أحد المصادر قال إن الإحالة ليست فقط بتوجيهات شفهية، بل إن هناك قراراً جمهورياً "سرياً" لم يُنشر في الجريدة الرسمية حتى الآن بإحالة تلك القضايا إلى القضاء العسكري، مرجحاً في الوقت ذاته ألا يعمل المحامون على تصعيد مسألة عدم دستورية المثول أمام القضاء العسكري منعاً لإهدار المزيد من الوقت والجهد.

وتنص المادة 204 من الدستور بعد تعديلها العام الماضي على أنه "لا يجوز محاكمة مدني أمام القضاء العسكري، إلا في الجرائم التي تمثل اعتداءً على المنشآت العسكرية أو معسكرات القوات المسلحة أو ما في حكمها أو المنشآت التي تتولى حمايتها، أو المناطق العسكرية أو الحدودية المقررة كذلك، أو معداتها أو مركباتها أو أسلحتها أو ذخائرها أو وثائقها أو أسرارها العسكرية أو أموالها العامة أو المصانع الحربية، أو الجرائم المتعلقة بالتجنيد، أو الجرائم التي تمثل اعتداءً مباشراً على ضباطها أو أفرادها بسبب تأدية أعمال وظائفهم". وهي حالات لا تتوافر في النسبة الكاسحة من قضايا مخالفات البناء، لا سيما أنه لم يصدر قانون باعتبار كل أراضي الدولة أو الأراضي الزراعية كمناطق عسكرية، على غرار ما حدث مع المنشآت الحكومية والمرافق من قبل.

وكان لافتاً أن تشمل هذه الحملة الكبيرة التي تشنّها أجهزة الدولة لجمع أكبر قدر من المبالغ المالية في ملف مخالفات البناء رجل الأعمال صلاح دياب، الذي اعتُقل الإثنين الماضي، على خلفية مشاكل سياسية ومالية مختلفة بينه وبين النظام الحاكم. فامتداداً للقضايا الصغيرة التي تثار ضده بين الحين والآخر للتضييق عليه ووضعه دائماً تحت الضغط والابتزاز لدفع المزيد من الأموال، وجد دياب نفسه أمام نيابة شرق القاهرة العسكرية مطالَباً بتسوية ملف مخالفات إنشائية في مجمع مصانع "لابوار" للحلويات الذي يملكه في حي البساتين، وأظهر سير التحقيقات معه فلسفة الأجهزة في تسيير تلك القضايا.

ووفقاً لمصدر قضائي مطلع، وُجّهت لدياب تهمة إقامة مبنى وسور على أرضٍ مملوكة للدولة خارج حرم الأرض المملوكة له، لكن دياب أنكر أن يكون مسؤولاً عن استمرار المخالفة من دون إزالة، وتبيّن من التحقيقات أن محاميه سبق أن عرضوا التصالح في هذه المخالفة، وقبل الرد عليهم أحيلت القضية إلى النيابة العسكرية، في تصرف يعكس رغبة المحليات في التخلص من المسؤولية والتنكيل بالمخالفين.
وأكد المصدر أن لا صحة لما تعمّدت الجهات الأمنية تسريبه عن القضية بأنها تشمل مطالبة دياب بسداد مبلغ تزيد قيمته على 11 مليار جنيه (نحو 700 مليون دولار) كمستحقات للدولة، موضحاً أن القيمة الإجمالية للمخالفات لا تتعدى المليون جنيه، لكن من الممكن تحريك قضايا أخرى إذا أراد النظام التضييق عليه أكثر، ولكنها ستكون أمام النيابة العامة أو قضاة التحقيق المنتدبين لقضايا الأراضي.

شملت الحملة الكبيرة التي تشنّها أجهزة الدولة لجمع أكبر قدر من المبالغ المالية في ملف مخالفات البناء، رجل الأعمال صلاح دياب
 

وتمثّل وقائع الاحتكاك المتواصل بين النظام ودياب سلسلة متوالية من التضييق والمطالبة بدفع مبالغ مالية طائلة لتسوية القضايا، ثم دفع تلك المبالغ أو أجزاء منها، ثم تهدئة الأمور. ففي نوفمبر/ تشرين الثاني 2015 أمرت النيابة العامة بضبط وإحضار دياب على ذمة قضية المنتجع السكني "نيو جيزة" بعد التحفظ على أمواله ومنعه من السفر، على عكس المعتاد في القضايا المالية، فالأصل أن هذين التصرفين كافيين للاحتراز من إهداره مال الدولة أو تصرفه فيه أو هروبه من التحقيق، وخصوصاً أن دياب مثل بنفسه خمس مرات أمام النيابة قبل الأمر بضبطه وإحضاره. وانتهت الأزمة بسداده نحو 300 مليون جنيه لحفظ التحقيقات المتهم فيها بالفساد في مجال تسقيع وبيع أراضي الدولة المخصصة للاستصلاح الزراعي، على الرغم من أن النيابة العامة كانت قد طلبت منه سداد 800 مليون جنيه.

وفي مارس/ آذار 2016 عاد النظام للتحرش بدياب عبر أحد أذرعه المعتادة وهو رئيس نادي الزمالك مرتضى منصور، الذي ادعى عليه بالسب والقذف والإزعاج، وهي قضية انتهت بعد شهر بالبراءة لتصالح الاثنين. بينما استمرت في المحاكم دعاوى أخرى ضده بتهم التجمهر وحيازة الأسلحة بمناسبة واقعة قديمة تعود إلى عام 2011 في منطقة معيشته في منيل شيحة بالجيزة، عندما وقع اشتباك بين بعض الأهالي ورجاله بسبب نزاع على قطعة أرض، ثم حصل فيها على البراءة أيضاً، تزامناً مع تراجع ملحوظ في سياسة "المصري اليوم" ووقف استضافتها لبعض الكتاب والمعالجات المعارضة لسياسات السيسي، إلى جانب قبوله التبرع لصندوق "تحيا مصر" التابع للسيسي والجيش مباشرة، لكنه بقي من أقل رجال الأعمال تبرعاً للصندوق.
وفي عام 2019 صدرت قرارات بمنع دياب من السفر والتحفظ على أمواله في قضية جديدة تتعلق بمنتجع "صن ست هيلز" وحصوله على أراضٍ بقيمة أقل من قيمتها الحقيقية والاتجار فيها بأسعار أعلى وبمخالفة اشتراطات بنائها، وفي نهاية العام اضطر دياب مرة أخرى لدفع 270 مليون جنيه لتسوية القضية والتصالح.

المساهمون