مخاضات الربيع العربي

02 نوفمبر 2014
+ الخط -

عمّت البشرى العالم العربي ببزوغ فجر جديد من الحرية والديمقراطية، بعد إسقاط رؤوس الأنظمة في تونس ومصر وليبيا واليمن، بانتفاضات شعبية أحدثت زلزالاً مدوياً، ضرب في سيدي بوزيد، وانتقلت ارتداداته إلى دول عربية أخرى، وبلغ صداه أرجاء العالم، وظن كثير من المتفائلين أن تلك الانتفاضات، ستمضي قدماً إلى سائر الدول العربية، لتطيح كل قادة الاستبداد، وتؤسس لأنظمة ديمقراطية، ترعى الحريات والحقوق الإنسانية.

لكن، بعد اندلاع شرارة الانتفاضة الشعبية السلمية في سورية، تراجع المجتمع الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية عن دعم مطالب الشعب السوري بالتحرر من نظام قمعي دموي، ما شجع هذا النظام على التمادي في جرائمه، ووضع الجيش، بعدته وعتاده، في مواجهة المدنيين العزل لإخماد الانتفاضة، وكان لقرار النظام شن حرب مفتوحة على الشعب الثائر، دور حاسم في عسكرة الانتفاضة السورية، بعد أن قام الجيش بشن حرب إبادة استعمل فيها جميع أنواع الأسلحة، بما فيها المحرمة دولياً، وعلى الرغم من ذلك لم يحرِّك "العالم الحر" ساكناً، والتزم الصمت غير المبرر إزاء المجازر اليومية التي يرتكبها النظام السوري.

وكان هذا التخاذل الدولي في دعم انتفاضة الشعب السوري ضد نظام دموي، مؤشراً على تحوّل في الموقف الغربي من ثورات الربيع العربي، وهو ما برز بشكل واضح في التراجع عن مطالبة الرئيس السوري بالتنحي عن الحكم، واتخاذ موقف مؤيد للانقلاب العسكري على رئيس منتخب ديمقراطياً في مصر، وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على أن القوى الغربية الكبرى لم تكن جادة في دعمها للحراك العربي، وإنما ركبت عليه متظاهرة بالانحياز إليه، لكن بعدما تأكد لديها أن الحراك في المنطقة العربية، سيفرز نخباً حاكمة جديدة، تعتمد في مشروعيتها على الموروث الثقافي الإسلامي، وهذا ما يفسر تخليها عن الشعوب المنتفضة في دول الربيع العربي، وتركها تواجه مصيرها لوحدها مع أنظمة الاستبداد، حفاظاً على مصالحها الحيوية في المنطقة.

وهكذا، وبعد صمتها عن الانتهاكات الخطيرة للنظامين السوري والمصري في حق المدنيين، أتى الدور على ليبيا التي بدا فيها التدخل الأجنبي واضحاً، من خلال دعم قوى إقليمية ودولية لقيادات عسكرية تنتمي للنظام السابق بزعامة خليفة حفتر، من أجل إجهاض ثورة 17 فبراير، وإعادة النظام السابق بشخوص جديدة، وهو ما أدى إلى انفلات أمني واضطراب سياسي، جراء الحرب الدائرة بين كتائب مؤيدة للواء المتقاعد والمليشيات المسلحة التي أسقطت نظام القذافي.

اليمن بدوره تعرّض لاختراق خارجي من أجل إفشال تجربته السياسية الهشة، مستغلاً ضعف مؤسسات الدولة، رغم الجهود الكبيرة التي بذلتها القوى السياسية لتجاوز المرحلة الانتقالية، وقد ظهر هذا التدخل الخارجي في انقلاب جماعة الحوثي على مخرجات الوفاق السياسي بين الأطراف، وإعلانها التمرد المسلح على مؤسسات الدولة، واحتلالها بالقوة لعدد من المرافق الحيوية، والسيطرة على أهم المدن اليمنية، في انتهاك صارخ لكل الاتفاقات المبرمة تحت إشراف الأمم المتحدة، وهو ما جعل اليمن يعيش حالة من عدم الاستقرار السياسي والأمني، ورغم كل ذلك، لم يتحرك المجتمع الدولي، لوقف تقدم هذا التنظيم المتطرف، وردعه كما فعل مع تنظيم "داعش"، وهو ما يطرح علامة استفهام كبرى حول جدوى الرعاية الدولية للقضية اليمنية؟

والعراق وإن كان هو الآخر قد شهد انتفاضة شعبية، لكنها كانت ذات طابع مذهبي، حيث قام النظام الشيعي الذي وضعه الاحتلال الأجنبي، بممارسة الإقصاء في حق السكان العراقيين من أهل السنة، وهو ما دفعهم إلى القيام بانتفاضة سلمية من خلال التظاهرات والاعتصامات في بعض المحافظات العراقية، لكن النظام واجهها بالقوة المسلحة، فتحولت هي الأخرى إلى ثورة مسلحة، كانت من تداعياتها دخول تيارات متطرفة على الخط، وإحداث حالة من الإرباك والتوتر في المشهد السياسي العراقي.

وبقيت تونس تشكل الاستثناء من القاعدة، حيث لا زالت القوى السياسية تحافظ على حد أدنى من التوافق السياسي، واستطاعت بحسها الوطني أن تتجاوز المطبات الخطيرة للفترة الانتقالية،  واستفادت من أخطائها، حفاظاً على مكتسبات الثورة التونسية التي تميزت بريادتها، وقد فوت هذا التوافق السياسي بين النخب التونسية، الفرصة على قوى الثورة المضادة داخلياً وخارجياً، التي كانت تتربص لاختراق التجربة الفتية، والانقضاض عليها كما فعلت في دول عربية أخرى، واستطاعت تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس أن تتخطى امتحانات عسيرة كادت أن تعصف بها، لولا تضحيات وتنازلات الائتلاف الحاكم لما بعد الثورة، خاصة بعد حالة الاحتقان والتوتر التي خلفتها عمليات الاغتيال السياسي لقياديين يساريين.

ورغم كون تونس قد تمكنت من اجتياز الانتخابات التشريعية الأخيرة بأمان، لكنها لم تتجاوز بعد الفترة الانتقالية، خاصة أنها تواجه صعوبات وتحديات متشعبة أمنية وسياسية وتنموية وهيكلية. تتطلب من الحكومة المقبلة جهوداً كبيرة لبناء دولة ذات مؤسسات قوية، تستطيع مواجهة التحديات المختلفة التي ستواجهها في المستقبل، وتستجيب لانتظارات الشعب التونسي الملحّة، خاصة في الجانب المتعلق بتحسين الظروف المعيشية للمواطن، فهل ستتمكن النخبة السياسية التونسية سواء في الحكومة أو في المعارضة من أن تحافظ على الاستثناء داخل محيط إقليمي مضطرب؟

من الصعوبة بمكان تكهن مآلات الربيع العربي، لأنه لا زالت هناك مخاضات عسيرة تعرفها الدول التي مرّ بها، وإن كان الواقع الحالي في بعض الدول العربية يحمل على التشاؤم من المستقبل، خاصة بعد تراجع  قضية الإصلاح السياسي لحساب القضايا الأمنية، فإن قراءة  رصينة للتاريخ الحديث، تجعلنا متفائلين بقدرة الشعوب على تقرير مصيرها، وإحداث تغيير في واقعها السياسي والاقتصادي، في أفق إرساء أنظمة ديمقراطية ترعى الحريات والحقوق، والمنطقة العربية لن تبق معزولة عن التحولات التي شهدها العالم، في مجال الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان..، لكن السؤال يبقى: كم من الوقت سيستغرق المخاض قبل ولادة أنظمة ديمقراطية؟ وبأي ثمن؟

CE7EB635-75EB-4416-B522-A8AA5BDBE4A0
CE7EB635-75EB-4416-B522-A8AA5BDBE4A0
فؤاد الفاتحي (المغرب)
فؤاد الفاتحي (المغرب)