من أجل تعايش الحضارات
الاعتداء الإجرامي المدان في فرنسا يجب أن يكون دافعاً كافياً لأصحاب القرار في العالم، لإعادة الاعتبار إلى قضية حوار الحضارات وتعايشها، حتى يفوتوا الفرصة على التيارات المتشددة، مسلمة أو مسيحية أو يهودية أو لادينية، والتي تحاول تلويث العقول بأفكار مضللة، قد تتدثر بالدين أو بالإيديولوجيا، وتهدف إلى تعكير العلاقات بين الديانات المختلفة، وإحداث شروخ بين الثقافات، والدفع في اتجاه القطيعة بين المجتمعات الإنسانية، لأنها تؤمن بنظرية "صدام الحضارات".
المستفيد الأول من أعمال العنف والإرهاب في العالم هم المتطرفون والمتعصبون في جميع الدول، وهم لحسن الحظ أقلية، والمتضرر الأول من هذه الأعمال غالبية الناس المسالمين والمعتدلين من جميع الديانات، والذين يرفضون فكرة الصراع بين الأديان والحضارات، ويؤمنون بالتعايش والتفاعل الإيجابي بينها. لذلك، ينبغي لكي نقطع الطريق على التيارات المتشددة التي لا تؤمن بالعيش المشترك بين المجتمعات البشرية، أن لا ننخرط، من حيث لا ندري، في مخططها الرامي إلى ضرب التعايش بين الديانات، سواء بالتضييق على الحريات أو انتهاك حقوق المهاجرين، بدعوى محاربة الإرهاب، بل يجب الحفاظ على الحقوق والحريات، وفي الوقت نفسه، الوقوف في وجه كل محاولات اليمين المتطرف في أوروبا عامة، لنشر الكراهية ضد المسلمين، وتصديرها إلى المجتمعات الغربية، باستغلال أحداث معزولة مثل التي وقعت في فرنسا، لتشديد الإجراءات الوقائية والقوانين ضد الجاليات العربية والمسلمة.
من دون شك، هناك تقاطع بين مصلحة المتطرفين المسلمين والمتطرفين المسيحيين واليهود، بمثل هذه العمليات الإجرامية، لأنهم يوظفونها لنسف كل الجهود والمبادرات التواصلية لجسر الهوة بين الحضارات الإنسانية، فالذين قاموا بتلك الاعتداءات الدموية يحملون فكراً متطرفاً، لا يؤمن بالحوار والاختلاف والتواصل بين الحضارات، ويتبنى العنف وسيلة للوصول إلى أهدافه، ويستغل تلك الأحداث المتطرفون في الديانات المسيحية واليهودية واللادينيون، لتأجيج العدواة والكراهية ضد المسلمين كافة، في محاولة للوصول إلى شيطنة جميع المسلمين، ووضعهم في سلة واحدة، وقد نجحوا، إلى حدّ ما، في التخويف منهم، وتشويه صورتهم في الغرب، في ما أصبح يعرف بالإسلاموفوبيا.
وللوقوف في وجه هذا المخطط الجهنمي، على الفعاليات والمنظمات والمراكز والجمعيات المدنية العربية والإسلامية، أن تضاعف جهودها أكثر لعرض الصورة السمحة والحضارية للإسلام، وإزالة كل الشوائب السلبية التي علقت به، جراء الممارسات المنافية للإسلام، والتي تقوم بها تيارات متطرفة محسوبة على المسلمين، وتوضيح أن هؤلاء لا يمثلون إلا أقلية معزولة عن المجتمعات الإسلامية، شأنهم شأن المتطرفين في المجتمعات الغربية.
وإذا كان العنف والإرهاب لا يرتبط بدين ولا بعرق، فإنه، والحالة هذه، لا يميز بين مسلم وغير مسلم. لذلك، نسمع بين فينة وأخرى عن قتل تنظيمات متطرفة مسلمين، لا يختلف الأمر بين أن تكون تلك التنظيمات محسوبة على الإسلام أو المسيحية أو اليهودية.
كان أمراً مثيراً في خضم ردود الأفعال المنددة بما حدث لفرنسا، استغلال رئيس وزراء الكيان الصهيوني الحادث سياسياً، لكي يعلن عن ضرورة التوحد ضد ما سماه "الإرهاب الإسلامي"، في محاولة للتغطية عن جرائم الإرهاب الذي يمارسه هذا الكيان المغتصب أرض فلسطين ضد المدنيين العزّل، وتضليل الرأي العام الدولي عن حقيقة الاعتداءات التي يمارسها المتطرفون اليهود في حق الفلسطينيين، والانتهاكات اليومية التي يرتكبونها في حق المقدسات الإسلامية، بغطاء من سلطات الاحتلال التي يقودها اليمين الصهيوني المتطرف، والذي لا يخفي كراهيته للمسلمين.
ولإسكات أصوات التعصب والتطرف، وفتح المجال أمام أصوات الاعتدال والتسامح، لا بد للمجتمع الدولي من اتخاذ مبادرات نوعية، من أجل رأب الصدع بين المجتمعات الغربية والعربية، وتعزيز فرص التعايش السلمي بين الحضارات، ونزع فتيل التوترات المفتعلة، التي يفجرها المتطرفون، حتى تصفو العلاقات بين الشعوب المختلفة، من أجل عالم أكثر أماناً وسلاماً وتسامحاً.