محنة العلماء في زمن الطغاة
يتبارى المستبدّون عموماً بإظهار اهتمامهم بالعلوم وبالعلماء إعلامياً، كما يتبارى إعلاميوهم في إبراز اهتمامهم الصوري هذا وكأنه إكسير الحياة والاستدامة الذي لولاه لمات علماء الأمة، وغاب عنهم الإبداع والاختراع. وقد تفاوتت دلالات التسمية بين المستبدّين المتدينين ونظرائهم من المستبدّين "التنويريين" أو "العادلين" كما يحلو لكثيرين من قرّاء التاريخ إغداق أوصاف على مستبدّين نالوا إعجابهم أو نالوا من عطاءاتهم، فالعالم لدى النوع الأول من المستبدّين هو ذلك العالم في الدين، والذي سيتمكّن، بموهبة "ربّانية"، في تسخير النص المقدّس لصالح المستبد الذي يكاد يُقارب النص تقديساً في التقديم. أما في الفعل، فهو يتجاوز النص قدسية مفروضة بالحديد وبالنار. والتاريخ محشوٌّ برجال الدين "العلماء" الذين صاروا خدماً وأبواقاً لفرض قدسية الحاكم الذي يلوذون به، ونزع قدسية النص المقدس، إن كان داعياً للعدل وللإنصاف وللأخلاق.
يأتي المستبدّ "المتنوّر" الذي آمن به بعض المفكرين نتيجة إما خيبة الأمل بحاكم عادل منتخب، أو لفساد فكري، أو لمصلحة مباشرة، فيستقطب علماء ليسوا دينيين، بل في حقول العلم الأخرى، بما فيها العلوم الإنسانية. في المقابل، لدى العالم كائنٌ خاضعٌ ومدجّن يُنتج له فكراً أو تحليلاً حسب الطلب وبناء على الحاجة. ومع ذلك، هو يخشى هؤلاء العلماء كخشيته من الزئبق الذي يمكن أن ينسلّ في أول فرصة حرية أو تحرر من نير الاستعمال السيئ للحاكم. وهذا ما يؤدي بالحكام المستبدين إلى التغني بالعلوم التطبيقية ورفعتها في بلادهم، إن كان ذلك صحيحاً أو لا، فيقربون منهم العاملين في هذه الحقول العلمية ويعتبرونهم علماء في كل المجالات، ما يسمح لهؤلاء الحكام بالظهور وكأنهم رعاة "العلم والعلماء".
الأشد خطراً على المستبد المستسيغ لغة القتل والتعذيب هو الباحث / العالم الذي يجترح الأدوات السلمية اللازمة للتخلص من سطوته
أسوأ المستبدين وأشرسهم نيةً وطويةً هم الذين يخلطون بين العالم/ العارف بالدين، وهم كثر حقيقةً أم ادعاءً، والعالم/ العارف بالعلوم الأخرى التي إن كانت إنسانية، فسيكونون نادرين وقد أبقى عليهم قيد التدجين والتطويع. والأسوأ من هؤلاء المستبدّين بعض العلماء أنفسهم الذين يقبلون بأن يكونوا علماء دين، ويهرفون بما لا يعرفون في علوم الإنسان التي أراد لهم المستبد أن يرتعوا في حقولها، فهم بهذا الخلط يشتمون العلم من الناحيتين، البحثية والتخصيصية. ومن جهة أخرى، هم يسيئون للدين من وجهة نظر المتدينين بجعله موضوعاً قابلاً للنقد وللتشكيك كبقية العلوم الإنسانية. يصبح حينها لقب العالم جامعاً وشاملاً، ما يُخفّض من قيمته التخصصية العلمية الحقيقية. ومن المتزايد في المجتمعات التي يخلط فيها المستبد بين الصفات والرتب، أن يكون عالما في أمور الدنيا، أو بالأحرى عارفٌ بها، قادر على أن يعتمده الاستبداد ومؤسساته عالم دين. وهنا يحصل الخلط المميت للعلم بمعانيه كافة. وقد انتشرت هذه الظاهرة في بلاد كثيرة يُحدّد فيها المستبد من هو العالم، وفي أي حقل هو عالم.
على الرغم من الاستقطاب والإفساد والترهيب، إلا أن علماء حقيقيين ينفدون بجلدهم أو بالأحرى بأدمغتهم من المستبد، حارمين بالتالي هذا المستبد من استغلالهم واستخدامهم. ويكون غالباً مصيرهم سيئاً مادياً ومعنوياً إلا من استطاع إلى اللجوء سبيلاً. كما يقول عبد الرحمن الكواكبي: "الغالب أن رجال الاستبداد يطاردون رجال العلم وينكّلون بهم، فالسعيد منهم من يتمكن من مهاجرة دياره".
يقبل بعض العلماء أن يكونوا علماء دين، ويهرفون بما لا يعرفون في علوم الإنسان التي أراد لهم المستبد أن يرتعوا في حقولها
في عالمنا المحيط، نشهد يومياً غياب عالمٍ عن الحياة أو في المعتقل. ونجد أن هؤلاء أخطر وبالاً على المستبد ممن يعارضونه بالسلاح، فالمسلح من المعارضين يستخدم لغةً يحترفها المستبد، ولا يرمش له جفن باستخدامها بكل سلاسة وارتياح. بل هو دائم السعي إلى تسليح معارضيه، حتى يستمتع بقتل العدد الكبير منهم. في المقابل، هو توّاب رحيم لمن يلقي منهم السلاح. أما العالم، وخصوصاً في علوم الانسان، فهو خطر ماحق و"جرثومة" تستحق كل جهود المستبد للقضاء عليها، وعلى أثرها إن وقع، فالضابط الانقلابي عبد الفتاح السيسي يمكن لأجهزته قتل الباحث الإيطالي جوليو ريجيني، العامل على ملف الاحتجاجات النقابية في كنف حكمه، واعتقال الباحث الشاب إسماعيل الاسكندراني وتغييبه بتهمة الإرهاب، لبحثه الجاد في تكوين الجماعات الإرهابية. كما لا يتهاون حكام طهران في اعتقال الباحثة الفرنسية من أصل إيراني، فاريبا عادلخاه، والحكم عليها بالسجن خمس سنوات، لعملها الجاد والدؤوب على الفهم الموضوعي للمجتمع الإيراني الرازح من دون ديمقراطية منذ عقود. أعمال بحثية جلبت لها انتقاد الرؤوس الحامية في بعض الأوساط الغربية، والتي اتهمتها ظلماً بأنها تحابي حكام طهران، لمجرّد سعيها إلى الموضوعية في استعراض موضوعاتها العلمية ونتائج أبحاثها. وأخيراً وليس آخراً، اغتيال المليشيات الطائفية العراقية، والتي تقودها قوى إقليمية مستبدّة، الباحث الشاب هشام الهاشمي، قناعة من هذه العصابات ومن القائمين عليها بأن نتائج أبحاثه الجادة والعميقة تشكل خطورة حقيقية بحق أعمالها وتركيبتها وارتباطاتها، لا تعادلها ألبتة مواجهات مسلحة مع قوى تعارضها.
العلاقة بين المستبد والعالم صدامية دائماً، حيث يستعمل المستبد كل وسائل الترغيب والترهيب لكي يتخلّص من "الشر" العلمي الحقيقي، ونتائج الأبحاث التي تتعمق في فهم الأسباب الحقيقية للتخلف وللانهيار الاقتصادي والأخلاقي التي لطالما ميّزت الدول التي تقبع تحت بسطار المستبد، "عادلاً" كان أم سواه. والأشد خطراً على المستبد المستسيغ لغة القتل والتعذيب هو ذاك الباحث / العالم الذي يجترح الأدوات السلمية اللازمة للتخلص من غيّه وسطوته. إنه الشيطان الأكبر.