محمود شقير: الرواية أقدر على استيعاب المتغيّرات الحالية

30 نوفمبر 2015
القاص والروائي محمود شقير
+ الخط -
* لنبدأ من روايتك الأخيرة "مديح لنساء العائلة"؛ الشخصيات، ومسار الأحداث كلّها تتصل بالواقع الفلسطيني، فكيف صهرتها في قالب فني جنحَ إلى الخيال؟ 

كانت المشكلة التي سعيت إلى تذليلها قبل الشروع في كتابة الرواية، هي البحث عن أسلوب السرد المناسب الذي يمكن تفريغ التجربة من خلاله، أقصد تجربة عائلة العبد اللات التي أخذها الشتات إلى بقاع شتى بعد النكبة الفلسطينية. وكان هناك بطبيعة الحال، إغراء المادة التاريخية التي لا بدّ من التعاطي معها ما دمت أتابع التطورات التي طالت العائلة المذكورة في ظرف تاريخي محدد. وكان يتعيّن عليّ في الوقت نفسه، أن أحذر من الوقوع في أسر التاريخ أو في شرك الرصد الفوتوغرافي لجزئيات واقع مضى وما زال أثره باقيًا في الوجدان وفي حياة الناس. لذلك اعتمدت السرد بضمير المتكلم، بحيث تتولّى الشخصيات الرئيسة في الرواية، التحدث عن نفسها وعن الآخرين، وبحيث تقوم ببلورة الأحداث من وجهة نظرها. كما اعتمدت أسلوب الرسائل الذي اضطلع به أحد أبناء العائلة، تعبيرًا عن حياته في المهجر البعيد، واستجابة منه لما يحدث لأبناء عائلته في الوطن.

أدعي أنني استطعت من خلال ذلك السيطرة على مادة كثيفة تتباين فيها الأمكنة، ويشتبك فيها الخاص مع العام، وتتوزّع فيها الأحداث على امتداد أربعين عامًا، هي الفترة التي عايشتها عائلة العبد اللات، وتعايش معها أبناؤها وبناتها، وقد جربوا حلاوة العيش حينًا، ومرارته في أغلب الأحيان.

* تقترب بعض قصصك القصيرة جدًا من التكثيف والإيجاز إلى درجةٍ تتقارب فيها مع قصيدة النثر؛ فهل هو انزياح نحو الشعر؟

ليس انزياحًا نحو الشعر، وإنما استفادة من أجوائه ومن بعض تقنياته. ولا أخفي أنني تأثّرت بقصائد اليوناني يانيس ريتسوس حين شرعت في كتابة هذا الجنس الأدبي الذي يعتمد التكثيف والإيجاز، مع ضرورة توافر حدث تنبني عليه القصة القصيرة جدًّا، وشخصيات قصصية يجري التعامل معها بأسلوب خاص، بعيد من الاسترسال والدخول في التفاصيل، للمحافظة على عنصر التقشف اللغوي الذي يميّز القصة القصيرة جدًّا، وللابتعاد بالقصة عن أجواء الخاطرة أو الأمثولة المنطوية على حكمة، أو الأهجية السياسية، وللوصول إلى نهاية صادمة تغلق دائرة السرد وتجعلها في الوقت نفسه مفتوحة على احتمالات شتى، من حيث المضمون وليس من ناحية الشكل، الذي عليه أن ينحاز إلى السرد القصصي فلا يتمادى في التماهي مع قصيدة النثر ليدخل في إطار الشعر، بحيث تتحوّل القصة إلى قصيدة، وهذا ما لم أقصده في كتاباتي القصصية رغم هذا الاقتراب من عالم الشعر.


اقرأ أيضًا: إبراهيم مهوي، أنا طالب يتتلمذ على يد الأدب

* هل ساهمت كتاباتك القصصية على مدار عقود، في تشكّل أدواتك السردية لكتابة الرواية؟

أعتقد ذلك، حتى إن نقادًا أشاروا إلى أن روايتي الأولى "فرس العائلة" تنبني فصولها ومشاهدها من وحدات قصصية، ومن قصص قصيرة جدًّا تتوالى وتتكامل على هيئة سرد روائي. ولستُ أجد ضيرًا في ذلك، بل إن فيه شكلاً من أشكال التجديد في الكتابة الروائية كما أعتقد، وفيه استفادة من الجملة المتحرّرة من الزوائد اللغوية ومن الاستعارات التي قد لا تعني أكثر من زخرف لغوي، وفيه كذلك استفادة من السخرية التي ظهرت في روايتي "مديح لنساء العائلة" وكنت كرّستها، أي السخرية، في مجموعتين قصصيتين هما "صورة شاكيرا" و"ابنة خالتي كوندوليزا".

وقد سبق لي أن كرّست كتبًا قصصية كاملة، تتشكل من قصص قصيرة جدًّا، متصلٌ بعضها ببعض، وفي الوقت نفسه منفصلٌ بعضها عن بعض، بحيث يمكنك قراءة كلّ قصة على حدة، ويمكنك قراءتها في ترابطها كما لو أنها رواية مكتملة. أقصد هنا كتابي القصصي: "احتمالات طفيفة"، الذي اعتبره الناقد حسن خضر رواية، وكتابي: "القدس وحدها هناك" الذي اعتبره الناقد الياس خوري رواية، وكذلك كتابي: "مدينة الخسارات والرغبة". وحين تناول الناقد الدكتور محمد عبيد الله تجربتي في القصة القصيرة في كتاب، اعتبر الواحد من هذه الكتب المذكورة هنا، كتابًا قصصيًّا تمييزا له عن المجموعة القصصية.

* هل ابتلعت الرواية باقي الأجناس، فأصبحَ يتجه إلى كتابتها الشعراء والقاصون؟

لم تبتلع الرواية باقي الأجناس الأدبية إلى الحد الذي يستدعي دقّ ناقوس الخطر، فما زالت هذه الأجناس تمارس حضورها، وإنْ كان على نحو أقلّ مما للرواية من وهج وحضور. وبالطبع، فإن لذلك أسبابًا بعضها موضوعي وبعضها الآخر ناتج عن الاحتفاء المبالغ فيه بالرواية، وعن خفوت الاهتمام بالأجناس الأدبية الأخرى مثل الشعر والقصة من النقّاد أولاً، ومن المؤسسات الثقافية التي تقوم بتسليط الضوء على الرواية عبر تخصيص الجوائز لها، وإقامة الندوات والمؤتمرات حولها.

ويبدو لي أن الإقبال على قراءة الرواية الآن له علاقة بما يشهده الوطن العربي من هبّات شعبية، ومن فوضى واضطرابات، وظهور قوى متطرفة تمارس نشاطها باسم الدين والدين منها براء، وتدخّل قوى أجنبية وأجهزة مخابرات تحت ستار تخليص شعوبنا من أنظمة الاستبداد، لتجرّ على هذه الشعوب ويلات فوق ما تعانيه من ويلات. فالرواية هي الأكثر قدرة على استيعاب هذا الكم الهائل من التطورات، وقد استطاعت جذب القارئ إلى عالمها الذي يرى فيه عالمه وما يحيط به من ألم وعذاب، ويرى في الوقت نفسه ما تطرحه عليه الرواية من فضح للواقع المعيش، ومن تبشير بواقع أفضل يتوق إليه الناس للخلاص مما هم فيه من بؤس وخراب.

اقرأ أيضًا: منير العكش، الفلسطينيون ليسوا هنودًا حمرًا

* تناولت في كتاباتك بيئات متنوعة من الحياة الفلسطينية؛ كالبداوة، هل تؤدّي البيئة دورًا في أعمالك؟

بكل تأكيد. وأعتقد أن معايشتي للقرية الفلسطينية فترات طويلة أملت عليّ الاهتمام ببيئة القرية وبالريف الفلسطيني عمومًا. فقد عملت بضع سنوات مدرّسًا في الريف، وأنا في الأساس أنتمي لقرية واقعة على تخوم القدس، ولدت في هذه القرية وما زلت أعيش فيها بعد أن تحوّلت إلى حي من أحياء القدس. ثم إن معايشتي للمدينة الفلسطينية، ولمدن عربية مثل دمشق التي كنت منتسبًا إلى جامعتها، وبيروت وعمان وهما المدينتان اللتان عشت فيهما منفيًّا من سلطات الاحتلال الإسرائيلي، تفسّر اهتمامي بكتابة قصص ونصوص تستوحي المدينة. كما أن جذوري البدوية ومتابعتي لحياة أهلي وأقاربي الذين عاشوا بيئة البداوة في فترة سابقة من حياتهم، جعلتني أهتم بالكتابة عن هذه الحياة التي ظلّت آثارها بارزة في سلوكهم اليومي إلى حدّ ما، وفي ذكرياتهم التي لطالما استمعت إليها من أمي وأبي ومن أقاربي، بحيث أصبحت مع تمثّلي لهذه الذكريات كما لو أنني عشتها بحذافيرها ومن دون انتقاص.

* بين الوطن والمنفى ثمة مسافة؛ كيف تصف تأثير المكان على أعمالكَ الأدبية؟

للمكان تأثير كبير على أعمالي الأدبية. وقد عاينت ذلك وتأكّدت منه بالتجربة الملموسة. فحينما كنت أعيش في المنفى بعيدًا من مكاني الأوّل، الذي شهد ولادة قصصي الأولى، وجدت صعوبة في كتابة قصص تنتمي إلى ذلك المكان وأنا بعيد منه، بل إن القصص التي كتبتها عن الانتفاضة الأولى وأنا مقيم في المنفى، اتّسمت إلى حد ما بالتذهين الذي يصوغ الرؤى والمشاعر والأمكنة على نحو مفتقر إلى حرارة التجربة والمعايشة الحية. لذلك، ومن أجل تجاوز هذه المعضلة، لجأت إلى كتابة القصة القصيرة جدًّا التي لا تحتاج إلى مكان مفصّل، بل تكتفي بجزئية من مكان ما لتشكّل وعاءً لمادة القصة وحاضنة لها. وحين عدت إلى الوطن وتعايشت من جديد مع مكاني الأوّل، عدت إلى كتابة قصص تستوحي هذا المكان وتتأطر من خلاله، وتغتني في الوقت نفسه بكل ما يعنيه المكان من هوية وانتماء.

ومن وجهة نظري، فإن السرد بوجه عام محتاج إلى تعايش حي مع المكان، وإلى تفاعل معه ومع تفاصيله، وأذكر هنا كيف أن روائيين عربًا مرموقين لم يتمكنوا من الكتابة عن القضية الفلسطينية بالنظر إلى بعدهم من المكان، وعدم قدرتهم على تمثله رغم تعاطفهم معه ومع أهله الفلسطينيين، وقد خرج عن ذلك بعض الكتّاب العرب بسبب ما لديهم من قدرات كما يبدو، من بينهم الروائي العراقي علي بدر في روايته "مصابيح أورشليم"، والروائي الجزائري واسيني الأعرج في روايته "سوناتا لأشباح القدس".

* المبدع ابن بيئته، يتأثر بها وينتج في ضوئها؛ فما أثر التحولات العربية الأخيرة في ما تكتب؟

حتى الآن لم تدخل كتابتي في صلب هذه التحولات، وذلك لأن ما كتبته في رواية "فرس العائلة" وفي رواية "مديح لنساء العائلة"، إنما يغطي فترة زمنية سابقة من حياة الشعب الفلسطيني، وبالذات الفترة من بدايات القرن العشرين حتى أوائل الثمانينيات حين خرجت المقاومة الفلسطينية من بيروت في العام 1982. لكن هذا الأثر سيظهر باستفاضة حين أكتب الجزء الثالث من هذه الثلاثية الروائية، حيث سأتطرق إلى الفترة الزمنية من ثمانينيات القرن العشرين إلى وقتنا الراهن، وقت التحولات وما شابها من التباسات جديرة بالتطرق إليها بإسهاب.

إنما يمكن القول في هذا الصدد: إن بذور ما يجري الآن وإرهاصاته كانت كامنة في تفاصيل الروايتين السابقتين على نحو غير مباشر. ولا أنكر أنّني كتبت هاتين الروايتين وعيني على الحاضر، وعلى ما ينوء به من قضايا وإشكاليات، ومن بؤس وخراب، وما قد يتمخض عنه من آمال وتطلعات.

* الفلسطيني مؤدلج بطبيعة نشأته؛ فهل استطعت التخلص من عبء الأيديولوجيا؟ أم ترى فيها معيناً على الإبداع؟

أعتقد أنه لا ضير في الأيديولوجيا إن جاءت بمقادير موزونة في العمل الأدبي، بحيث لا تخلّ بشروطه الفنية ولا تثقل عليه ولا تكبّله باعتبارات مفروضة عليه، ولا تظهر سافرة في تفاصيله، أما إن زادت عن حدّها وطفت على سطح العمل الأدبي فذلك غير مقبول. وأنا لا أبرئ نفسي من تهمة التورط في إدخال مقادير زائدة من الأيديولوجيا في بعض نصوصي القصصية في فترة سابقة. ربما كان هذا مرتبطًا بالفهم المسطّح للواقعية الاشتراكية في زمن الحماسة الأولى للعالم الجديد الذي راح يتشكل على الضدّ من العالم الرأسمالي، وربما كانت له علاقة بطبيعة معاناة الشعب الفلسطيني من الاحتلال ومن الغزوة الصهيونية التي دفعتني، مثلما دفعت غيري من المبدعين الفلسطينيين، وبخاصة في فترة الانتفاضة الأولى 1987 إلى كتابة قصص فيها مباشرة وتحيّز، وفيها أدلجة لا يحتملها النص الأدبي، بل هي تنقص من قيمته الفنية ومن جدارته وجدواه.

* يحاصرك الاحتلال بجداره العنصري ويطوّق مدينتك. هل يمثل لك ذلك تحدّيًا حياتيًّا وإبداعيًّا؟

هو يمثل قبل كل شيء تحدّيًا حياتيًّا، ليس لي وحسب وإنما كذلك لكل أبناء القدس. لأن هذا الجدار مكرّس لإعاقة الحياة الطبيعية في المدينة، وهو مكرّس لعزل المدينة عن محيطها الفلسطيني، تمهيدًا للمضي قدمًا في تهويدها ولتغيير مشهدها العمراني، وإشاعة ثقافة الغزو فيها والهيمنة عليها، ومن ثم تقليص الوجود البشري الفلسطيني فيها إلى أقصى حدّ ممكن. وبالطبع، فإن ممارستي للكتابة لم تبدأ من التحدّي الذي يفرضه هذا الجدار بما يتسم به من عنصرية ومن تشديد للحصار على المدينة وعلى أهلها، بل هي ابتدأت منذ ابتلينا بهزيمة يونيو/ حزيران، وحتى قبلها بسنوات على أثر النكبة الكبرى التي وقعت في العام 1948، ذلك لأن الكتابة التي تنشد العدل وتسعى إلى الأجمل والأكمل والأنقى، لا يمكنها أن تتعايش مع هذا الخنق المقصود لمقومات الحياة الكريمة، وللحرية التي لا يمكن لأي كائن بشري يحترم نفسه أن يحيا من دونها. وباختصار، فهذا الجدار ليس علامة على العنصرية والهيمنة والتحكّم في مصير شعب آخر وحسب، بل هو دليل على وحشية المحتلين الإسرائيليين وعيشهم في انفصال أكيد عن الواقع، حيث في الزمن الذي انهارت فيه الأسوار راحوا يبنون من حولنا جدارًا لن يبقى ولن يدوم.

* كروائي كيف تصف الوضع العربي الراهن، هل ما يحدث يشبه رواية طويلة؟

هذه الفوضى وهذا القتل والتشرذم والتشظي والصراع المذهبي والطائفي، وكل مظاهر الانحطاط التي نراها في الوضع العربي الراهن ليست إلا النتاج المرّ للتراكمات التي ظلّت تحتشد تحت سطح مجتمعاتنا من دون أن تجد لها حلولاً مناسبة في أوقات مناسبة، جرّاء هيمنة أنظمة الاستبداد والتسلّط التي حرمت الجماهير من حقها في ممارسة السياسة، وكمّمت الأفواه وأشاعت الخوف في صدور الناس. وحين ضاق الناس بأحوالهم انتفضوا في محاولات للتغيير السلمي، فانفجرت هذه التراكمات وغطّت على طموحاتهم في الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والكرامة، واستثمرتها قوى خارجية، ووجهتها في اتجاهات لا تخدم إلا مصالح هذه القوى في الهيمنة وفي فرض التبعية على الحكام، وأفسحت في المجال لظهور نزعات التطرف والعنف والقتل والإقصاء. ولعلّ حاجتنا إلى مجتمعات مدنية حديثة، وإلى تعليم عصري في المدارس والجامعات، وإباحة للحريات العامة على نحو صحيح بعيد من المظاهر الشكلية الكاذبة، وشرعنة حياة سياسية حقيقية يشارك فيها الناس، والاعتراف بالتنوّع وبالتعددية وبالتعايش السلمي بين مختلف فئات المجتمع، وتداول السلطة من دون إكراه، والاهتمام بالثقافة الجادّة وتعميمها في أوساط الأجيال الجديدة ما يساعد على الخروج من حالة التردّي التي ينزلق إليها الوضع العربي الراهن ويمعن في الارتماء في الخراب والتمزّق والدمار، غير أن هذه الآمال والتطلعات لن تتحقق، للأسف الشديد، في وقت قريب.

اقرأ أيضًا: حنان الشيخ، الأدب ليس للترفيه والتسلية

* ماذا يعني لك المنفى.. وأنت المنفي العائد.. هل وجدت البلاد كما أردتها؟

المنفى هو الجزء المتمّم لتجربتي في الحياة وفي الكتابة. أورثني المنفى شعورًا بالأسى، كان يتنامى ويتصاعد كلّما تذكرت حالة عدم الاستقرار التي عشتها ثماني عشرة سنة، هي الفترة التي قضيتها مبعدًا من القدس، مقيمًا على نحو مؤقت في بيروت وعمان وبراغ. ومكّنني المنفى في الوقت نفسه، من النظر بتجرّد وموضوعية إلى البلاد وإلى تجربتنا السياسية فيها، بحيث صرت أقدر على نقد التجربة وما شابها من نواقص وأخطاء، وعلى رؤية التخلّف الذي ما زال يعشش في واقعنا وفي تفاصيل حياتنا اليومية. وبالطبع فإن جزءًا غير قليل من المسؤولية عن ذلك، يقع على عاتق الاحتلال الإسرائيلي الذي حرمنا من الحياة الطبيعية ومن التطور بشكل لا ضغوط فيه ولا عقبات.

على صعيد الكتابة، حاولت أن أواصل كتابة قصص جديدة بأسلوبي القديم، ولم يكن ذلك ممكنًا. أدركت استحالة ذلك بعد أن كتبت قصة قصيرة وأنا أعيش أسابيعي الأولى في بيروت، فلم ألمس أي شبه بينها وبين الواقع الجديد الذي وجدتني فيه، ودخلت جرّاء ذلك في أزمة كتابة لم أتخلّص منها إلا بعد أشهر، قرأت خلالها كثيرًا مما فاتتني قراءته من نتاجات ثقافية عربية وأجنبية، لم تتح لي فرصة لقراءتها بسبب الحصار الثقافي الذي كان مفروضًا علينا في الوطن، ثم استطعت الخروج من هذه الأزمة بكتابة مجموعة من القصص ذات المنحى التجريبي، بعيدًا من أسلوب القصة التقليدية الذي جربته في مجموعتي القصصية الأولى "خبز الآخرين".

وأما البلاد، فلم أجدها بعد العودة كما أردتها، والصحيح، أنني كنت أتوقع بسبب متابعتي لأوضاعها وأنا في المنفى، أنني لن أجدها كما أريدها. فالمستوطنات كانت تتكاثر كالفطر السام من حول القدس وفي بقية أنحاء البلاد. وقبضة المحتلين على مصائر الناس كانت تزداد وحشية وضراوة، والاهتمام بالثقافة كان يتراجع إزاء صعوبات الحياة الاقتصادية وعوامل أخرى. لكن إصرار الناس على البقاء في البلاد رغم العسف والاضطهاد كان يشكل الحقيقة التي لا سؤال حولها وليس فيها جدال.
المساهمون