23 اغسطس 2024
محمد قحطان .. مدرسة السياسة اليمنيّة المغيّبة
يعد السياسي والقيادي البارز في حزب التجمع اليمني للإصلاح، والمختطف لدى جماعة الحوثي منذ الخامس من إبريل/ نيسان 2015، محمد قحطان، مدرسةً سياسيةً يمنيةً فريدة وفارقة في تاريخ اليمن الحديث، باعتباره صانع السياسة الأول على مدى عقدين، حيث ظل حاضراً بقوة أبرز سياسي أنعش الحياة السياسة اليمنية التي دخلت حالة الموت السريري منذ حرب صيف 1994، وأمدها بفاعليته وكاريزميته التي جعلت السياسة في اليمن أكثر ديناميكية.
ظل نموذجاً سياسياً فريداً من نوعه في المشهد اليمني الآسن سياسياً، فقد سبق كثيرين من رواد السياسة من مختلف تياراتها وأطيافها في تقديم السياسة على أنها جسور تواصل ومادة بناء المشتركات الوطنية العليا وتحصين الوطن بها، وتعزيزها ركائز لاجتماع سياسي أكثر تماسكاً وثباتاً وقدرة على ترسيخ الهوية الوطنية اليمنية الحديثة، فقد ظل الرجل حاضراً في مختلف منعطفات السياسة اليمنية ومحطاتها خلال العقدين الماضين، شاهداً على أحرج لحظاتها. لم يكن مجرد شاهد على المشهد، بل شارك وبقوة في صناعة السياسة بمعناها الكبير، أداةً لبناء الإنسان فالدولة فالمجتمع، الثلاثية التي كانت حاضرة في كل خطاباته ونقاشاته ونضالاته منذ بداية مشواره السياسي، وحتى النهاية الأليمة، الخطف والمصير الغامض.
لم يكن محمد قحطان يوماً خصماً لغير الفساد والفوضى والطغيان، فقد قضى معظم حياته مناهضاً لهذه الممارسات، ورافعاً راية النضال السلمي والمدني بكل جسارة واقتدار، تلك التجربة التي عرفتها اليمن، خلال مرحلة ما بعد قيام الوحدة اليمنية في مايو/ أيار 1990، حيث يعد قحطان أبرز روادها.
صحيحٌ أن قحطان لم يكن وحيداً في صناعة المشتركات الوطنية، لكنه كان الأبرز والأكثر جرأة
في اقتحامها، فقد كان بجانب رفيقه الأمين العام المساعد للحزب الاشتراكي اليمني، جار الله عمر، الذي قدم روحه قرباناً لمشروع المشتركات الوطنية الكبرى في طريق الدولة المدنية المنشودة، إلا أن قحطان بقي حالة استعصاء كبيرة في وجه نظام العبث العام طوال مشواره السياسي. ظل حالة مغايرة للمشهد السياسي السائد، حيث أتى تعبيراً صادقاً وشجاعاً عن حالة التهميش والإقصاء التي عاشتها شريحة عريضة من طبقة اليمنيين الوسطى، في ظل نظام يُفترض أنه جمهوري ديمقراطي تعدّدي عادل، تتكافأ فيه الفرص ويتساوى فيه الجميع، فلم يرق خطابه السياسي كثيراً لكثيرين من سدنة النظام السابق، لأنه خطابٌ ينبع من قلب المجتمع، معبراً عن شريحة عريضة من الناس وآمالهم وتطلعاتهم.
كنت قريباً إلى حد ما من محمد قحطان، وناقشته كثيراً بين حين وآخر، وكنت كل مرة أدرك سر الرجل وفرادته في المشهد السياسي اليمني، فعلى الرغم من خلفيته الإسلامية التقليدية في مزاولة السياسة، إلا أنه كان شديد الاطلاع والإلمام بكل النظريات السياسية وسياقاتها وفلسفاتها، عدا عن إلمامه الكبير بجل السير الذاتية للسياسيين والقادة والزعماء في العالم، حيث كنت كلما زرته وجدت أمامه كتاباً لسيرة ذاتية يعكف عليها مستخلصاً تجاربها وحكمها.
لم يكن قحطان مجرّد سياسي أجبرته ظروف بلاده أن ينخرط في سوق السياسة، وإنما كانت السياسة تعبيراً عن قناعاته، مفكّراً عرك الحياة وخبرها جيداً، فشكلت تجاربه الحياتية فكره وسلوكه وتوجهاته. ويقول علي شريعتي إن المؤرخ يعرف التاريخ وشخوصه وقصصه وحكاياه والتاريخ عنده مجرد ماضٍ رحل ولن يعود، فيما التاريخ بالنسبة للمفكر نهر جار يتدفق باستمرار، ويستفيد المفكر من كل ما يجري أمامه في نهر التاريخ المتدفق، وهذا ما كان عليه محمد قحطان ورؤيته للسياسة والتاريخ والفكر والثقافة.
بالعودة إلى تجربته السياسية، فقد كان صانعاً دائماً للمشتركات الوطنية يكسر جمود السياسة ورتابتها بمبادراته وأفكاره المغايرة والجريئة التي يرمي بها في المشهد السياسي، ويحرّك مياهها الراكدة، فبعد حرب صيف 1994 التي أطاحت أول محاولة لاجتماع سياسي ديمقراطي في اليمن، بفعل صراع الأيديولوجيات المحنطة، بين يسار ويمين، بادر قحطان مباشرة بعدها إلى تصحيح مسار السياسة، فقد شكلت تجربة ما سميت أحزاب اللقاء المشترك، وكان قحطان ورفيقه جار الله عمر عرّابيْها، وهي تجربة فريدة عربياً في جمع كل خصوم السياسة حول برنامج سياسي مشترك معارض للنظام، ومطالب بالإصلاح السياسي، وتسوية ميدان السياسة أمام الجميع، كما كان يسمها قحطان، التجربة التي كانت تجاوزاً مبكّراً وناجحاً لحوار الأفكار التي كان يشتغل عليها المؤتمر القومي الإسلامي، ولم تنجح سوى في الحالة اليمنية.
ومثلما كان فولتير يقول: لو لم تكن السخرية موجودة لأوجدناها لمقارعة الطغيان، فهي السياط
الأكثر إيلاماً وتحدّياً له من دون قتال.. ومن هنا، ربما كان محمد قحطان يعمد، في ممارسته السياسية، منطلقاً في التعبير عنها أحياناً بطريقة مليئة بالسخرية اللاذعة، كما في قضية سعر البيضة الشهيرة التي تحدّى بها قحطان حينها نظام الرئيس صالح في أثناء انتخابات عام 2006 الرئاسية. لم يكن مجرّد ساخر، بقدر ما كان يدرك مقدار السخرية في كبح غرور الطغيان ومقارعته من دون مواجهته مباشرة، فتمكّن بهذا النوع من التصريحات الساخرة أن يوجه سهامه إلى خصومه السياسيين، من دون أن يبذل جهداً كبيراً في التوضيح والشروح للناس، وإقناعهم بما يريد، فالسخرية لغة مشتركة وبسيطة ومفهومة للجميع، ولكنها أشد إيلاماً.
ظل محمد قحطان حادي السياسة وفنارها المدني العقلاني الذي يتمكّن، في أحلك الظروف، من ابتكار الحلول واجتراحها، لكنه مع سقوط صنعاء وموت السياسة، واختناقها بفعل سطوة عنف سلاح المليشيات، التي اختطفته أيضاً لإدراكها جيداً أن بقاءه طليقاً سيشكل تحدّياً لجنونها وسلاحها الذي لا يمتلكون منطق وشرعية استخدامه، ولا يمتلكون القدرة على المحاججة أمام قحطان. وحده ربما من كان يمتلك القدرة على إدارة مسألة الخروج من دوامة هذه اللحظة اليمنية الراهنة سياسياً، بفعل تجربته وحنكته، لكن المليشيات التي ترى السياسة خصماً لها، وكل السياسيين أعداء لها، لكونها لا يمكنها البقاء في وجود السياسة، وإنما الحرب بيئتها المفضلة لاستمرارها، وأن دخان الحرب لا حوار السياسة متنفسها الوحيد وإكسير بقائها. ولهذا حرصت وتحرص على التعمية على مصير محمد قحطان المغيب منذ خمس سنوات، فيما كشفت عن مصير غيره، وأي رهان ربما على تعقل هذه المليشيات ربما ليس مجدياً، على الرغم من أن ورقة قحطان هي أكثر الأوراق ربحاً لمن يمتلك صدق الموقف وشجاعته، فهل ستفعلها المليشيات؟ هذا ما لا يمكن حدوثه بسبب الحقد والكراهية والعنصرية في هذه المليشيات تجاه كل من يختلف معها، فضلاً عن أن يكون هذا المختلف معها محمد قحطان.
لم يكن محمد قحطان يوماً خصماً لغير الفساد والفوضى والطغيان، فقد قضى معظم حياته مناهضاً لهذه الممارسات، ورافعاً راية النضال السلمي والمدني بكل جسارة واقتدار، تلك التجربة التي عرفتها اليمن، خلال مرحلة ما بعد قيام الوحدة اليمنية في مايو/ أيار 1990، حيث يعد قحطان أبرز روادها.
صحيحٌ أن قحطان لم يكن وحيداً في صناعة المشتركات الوطنية، لكنه كان الأبرز والأكثر جرأة
كنت قريباً إلى حد ما من محمد قحطان، وناقشته كثيراً بين حين وآخر، وكنت كل مرة أدرك سر الرجل وفرادته في المشهد السياسي اليمني، فعلى الرغم من خلفيته الإسلامية التقليدية في مزاولة السياسة، إلا أنه كان شديد الاطلاع والإلمام بكل النظريات السياسية وسياقاتها وفلسفاتها، عدا عن إلمامه الكبير بجل السير الذاتية للسياسيين والقادة والزعماء في العالم، حيث كنت كلما زرته وجدت أمامه كتاباً لسيرة ذاتية يعكف عليها مستخلصاً تجاربها وحكمها.
لم يكن قحطان مجرّد سياسي أجبرته ظروف بلاده أن ينخرط في سوق السياسة، وإنما كانت السياسة تعبيراً عن قناعاته، مفكّراً عرك الحياة وخبرها جيداً، فشكلت تجاربه الحياتية فكره وسلوكه وتوجهاته. ويقول علي شريعتي إن المؤرخ يعرف التاريخ وشخوصه وقصصه وحكاياه والتاريخ عنده مجرد ماضٍ رحل ولن يعود، فيما التاريخ بالنسبة للمفكر نهر جار يتدفق باستمرار، ويستفيد المفكر من كل ما يجري أمامه في نهر التاريخ المتدفق، وهذا ما كان عليه محمد قحطان ورؤيته للسياسة والتاريخ والفكر والثقافة.
بالعودة إلى تجربته السياسية، فقد كان صانعاً دائماً للمشتركات الوطنية يكسر جمود السياسة ورتابتها بمبادراته وأفكاره المغايرة والجريئة التي يرمي بها في المشهد السياسي، ويحرّك مياهها الراكدة، فبعد حرب صيف 1994 التي أطاحت أول محاولة لاجتماع سياسي ديمقراطي في اليمن، بفعل صراع الأيديولوجيات المحنطة، بين يسار ويمين، بادر قحطان مباشرة بعدها إلى تصحيح مسار السياسة، فقد شكلت تجربة ما سميت أحزاب اللقاء المشترك، وكان قحطان ورفيقه جار الله عمر عرّابيْها، وهي تجربة فريدة عربياً في جمع كل خصوم السياسة حول برنامج سياسي مشترك معارض للنظام، ومطالب بالإصلاح السياسي، وتسوية ميدان السياسة أمام الجميع، كما كان يسمها قحطان، التجربة التي كانت تجاوزاً مبكّراً وناجحاً لحوار الأفكار التي كان يشتغل عليها المؤتمر القومي الإسلامي، ولم تنجح سوى في الحالة اليمنية.
ومثلما كان فولتير يقول: لو لم تكن السخرية موجودة لأوجدناها لمقارعة الطغيان، فهي السياط
ظل محمد قحطان حادي السياسة وفنارها المدني العقلاني الذي يتمكّن، في أحلك الظروف، من ابتكار الحلول واجتراحها، لكنه مع سقوط صنعاء وموت السياسة، واختناقها بفعل سطوة عنف سلاح المليشيات، التي اختطفته أيضاً لإدراكها جيداً أن بقاءه طليقاً سيشكل تحدّياً لجنونها وسلاحها الذي لا يمتلكون منطق وشرعية استخدامه، ولا يمتلكون القدرة على المحاججة أمام قحطان. وحده ربما من كان يمتلك القدرة على إدارة مسألة الخروج من دوامة هذه اللحظة اليمنية الراهنة سياسياً، بفعل تجربته وحنكته، لكن المليشيات التي ترى السياسة خصماً لها، وكل السياسيين أعداء لها، لكونها لا يمكنها البقاء في وجود السياسة، وإنما الحرب بيئتها المفضلة لاستمرارها، وأن دخان الحرب لا حوار السياسة متنفسها الوحيد وإكسير بقائها. ولهذا حرصت وتحرص على التعمية على مصير محمد قحطان المغيب منذ خمس سنوات، فيما كشفت عن مصير غيره، وأي رهان ربما على تعقل هذه المليشيات ربما ليس مجدياً، على الرغم من أن ورقة قحطان هي أكثر الأوراق ربحاً لمن يمتلك صدق الموقف وشجاعته، فهل ستفعلها المليشيات؟ هذا ما لا يمكن حدوثه بسبب الحقد والكراهية والعنصرية في هذه المليشيات تجاه كل من يختلف معها، فضلاً عن أن يكون هذا المختلف معها محمد قحطان.