تحمل قصة محمد قنديل (أنديل)، كل الكليشيهات الرومنسية الممكنة التي تلت 25 يناير2011: شاب أسمر، قادم من كفر الشيخ إلى القاهرة للدراسة الجامعية. يبدأ برسم الكاريكاتور، تندلع الثورة، يُحسب على الثوار. تنتهي الثورة. تعود الدكتاتورية، يبدأ برنامجاً ساخراً على يوتيوب. ثمّ برنامجاً آخر، في ظل الدكتاتورية المستجدة، ينتقد فيها الدكتاتور الجديد. تحتفي به الصحافة الغربية، ويحتفي به معارضو النظام. تنتهي القصة هنا. بهذه البلادة المتوقعة وهذا الملل الذي يشبه رتابة الحياة السياسية في مصر والعالم العربي. لكن، من حسن حظنا أن القصة ليست بهذه التقليدية، وأن الكليشيهات كلها لا تنطبق في الحقيقة على تجربة أنديل، وإن كان الأكيد أن الشاب صاحب التجربة، أسمر، وأنه قادم من كفر الشيخ (الحبيبة) إلى القاهرة.
تبدأ قصة أنديل من القاهرة. جريدة الدستور تحديداً حيث بدأ برسم الكاريكاتور باكراً. نحن في السنوات التي سبقت الثورة، عام 2005، وفي الوقت الذي كانت فيه الدستور "الجرنال المصري المعارض". كانت سنوات الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك الأخيرة، وكانت قبضته الأمنية قد بدأت بالتراخي نتيجة اهتراء هذا النظام، فحصل أنديل على فرصته في رسم ما يريد، وانتقاد النظام من دون مضايقته بشكل حقيقي. لكن رغم ذلك، بدا أن هذا الشاب يملك أكثر من مجرد الرسم الكاريكاتوري لانتقاد النظام. "الكاريكاتور التقليدي، المنتشر في الصحف القومية وقتها، لم يكن معنياً بإلهام القارئ بقدر تحوّله إلى مجرّد مخاطبة مباشرة للنظام" يقول أنديل في حديثه مع "العربي الجديد". فغياب الحياة السياسية والركود السياسي في مصر في التسعينيات ومطلع الألفية الجديدة، جعل من فن الكاريكاتور، فناً باهتاً من دون أي twist في المضمون أو في الرسومات، وهو ما كسرته جريدة الدستور، فبرز أنديل وسط جيل مختلف من الرسامين الشبان، مخلوف وعبدالله ودعاء العدل وأنور.. ينقلون الرسم الكاريكاتوري من مكانه الرتيب إلى مكان أكثر حيوية وأكثر ذكاء. خطوط الرسم، اللغة المستخدمة كل شيء بدأ جديداً، وبدا مبهراً في تلك الفترة.
ثمّ جاءت الثورة. 25 يناير/كانون الثاني 2011 فتحت آفاقاً كثيرة. "كانت الثورة وما تلاها ساحة للتجريب على كل المستويات" يقول أنديل، ليعود للحديث عن الكاريكاتور، في الفترة التي تلت الثورة. استمّر أنديل بالرسم. لمن كان يرسم؟ "كنت أسأل هذا السؤال، إلى أن وصلت إلى خلاصة أنني أرسم لنفسي". يرسم لنفسه، بطريقة تشبهه غالباً. بخطوط الرسم غير التقليدية، بشخصيات واضحة، "الفنان هو عدسة على تفاصيل يومية في المجتمع، قد لا ينتبه المواطن إليها". رغم بديهية ما يقوله، يبدو ذلك خطاً آخر، مستقلّا تماماً عن الكاريكاتور الذي لا يزال يزين صفحات الصحف المصرية، والعربية عموماً.
وفي ظل التراجيديا العربية في السنوات الأخيرة، وفي وقت تراكمت هزائم الثورات السياسية، كان مشهد ساخر جديد يتشكّل، ليزيح بهدوء وتدريجياً كوميديا الأنظمة، التي شكّلت الوعي العربي وتماسه المباشر مع الفكاهة طيلة أكثر من خمسة عقود. باسم يوسف مثلاً، وعلى جانب آخر وفي سنوات لاحقة، أنديل. ورغم طفرة برامج كوميدية رديئة و"ميديوكر" على شبكة الإنترنت في مختلف العالم العربي، كان أنديل بموازاة الكاريكاتور يرسم لنفسه طريقا على شبكة الإنترنت في تقديم الفيديوهات الساخرة. "راضيو كفر الشيخ الحبيبة"، (سمعي/أوديو فقط) ثمّ فيديوهات "إزيكم يا ك****؟" ليتحوّل لاحقاً إلى "أخ كبير" على موقع "مدى مصر".
بشارب أسود، وجلابية سوداء، وبديكور شعبي، وحقيقي ببشاعته، ينظر أنديل إلى الكاميرا، بعين وقحة، وبنبرة الموطن الشريف، يخبرنا عن الأقليات، عن الحريات، عن التعذيب عن التعليم... يشتم، ثمّ يتحدّث بنبرة جدية. فيديوهات ساخرة، تنقل المشاهد بين خطّي الضحك والمرارة بسرعة قياسية. لا يرتجل أنديل، "قبل أخ كبير، كنت أضع خطوطاً عامةً، وأرتجل التفاصيل التي تدور حولها، أما في "أخ كبير" فأنا أضع سكريبت وذلك لأن الفيديو ينشر على صفحة موقع مدى مصر، ويجب على الموقع أن يعلم عما تدور الحلقة". وماذا عن ردّة فعل الجمهور، والشتائم التي ينالها في أوقات كثيرة على مواقع التواصل الاجتماعي؟ "أجد أن ذلك صحي" يقول ببساطة، ويشرح أن تفاعل الناس مع الفيديوهات أمر طبيعي، خصوصاً أن الجمهور الذي يتوجّه له ليس محدداً. يدرك أنديل جيداً أنّ "أخ كبير" قد لا يعجب كثيرين، ويدرك أيضاً أن دوره ليس دور الواعظ: "لا أتوجّه للناس بمنطق العارف الذي يوزّع معرفته على الناس الأقل معرفة منه، بل أحاول تحطيم الصورة النمطية للصواب التلفزيوني والخطاب التثقيفي الفاسد، أتمنى أن يتوقف الناس عن الوثوق بأي شخص يُسمح له بالظهور على التلفزيون".
رغم الشتائم التي تضمّنتها حلقات "أخ كبير" ورغم النبرة الساخرة، لا يسقط أنديل في فخاخ الانفعال، فلا يقدّم مضموناً ذكورياً أو عنصرياً أو جندرياً... "من الضعف أن يعجز فنان أو إعلامي ساخر عن إضحاك الناس إلا بمضمون ذكوري أو عنصري". لكن هل يؤثر الصواب السياسي على حرية الإبداع؟ "لا، رغم أن مقاربة كل القضايا ممكن بسخرية، وبعيداً عن الازدراء بأي فئة من فئات المجتمع، أنا مهتم بحب الناس للصراع في الفن، وتقديرهم لجرأة الساخر في التجاوز، ولكن أعتقد أنه ممكن تحقيق هذا بطريقة لا تزيد بالضرورة من معاناة المقموعين".
وعلى هامش كل ما سبق، نعود إلى كفر الشيخ، في الشمال المصري. المدينة التي غادرها أنديل وهو في السابعة عشرة من عمره، حاضرة دائماً، ليس من باب النوستالجيا، ولا من باب الحفاظ على الجذور الفلاحية للشاب الأسمر، على طريقة الشاعر الراحل عبد الرحمن الأبنودي. هناك كبر الشاب، وكبرت معه السخرية. متسلحاً بهذه السخرية داخل القاهرة، التي بدت موحشة، وبدا غريباً فيها "علمتني ديستوبيا المدارس الحكومية كيف آخذ حقي بالسخرية في مجتمعات على مشارف الانهيار".
تقول القصة إنّ أنديل شاب مصري يوجّه انتقاداته إلى النظام المصري، وهي معلومة صحيحة، جزئياً. لكن تتمة هذه المعلومة في ما يقوله محمد أنديل: "الصعوبة في أن يعبّر الشخص عن رأيه في ظل حكم دكتاتوري، هو في عدم تحوّل هذا التعبير إلى ورقة تستخدمها أطراف أخرى للضغط السياسي ولتحقيق مكاسب خاصة".
مجدداً، تحمل قصة محمد قنديل (أنديل) كل الكليشيهات الرومنسية الممكنة التي تلت 25 يناير 2011. لكن أمام بشاعة الواقع، وموهبة صاحب التجربة، تذوب الكليشيهات على شاشة صغيرة، ونصّ محبوك من دون ادعاء، وكاريزما "أخ كبير"، يعرف قواعد اللعبة، ويتقنها.