محاولة الاغتيال في تونس.. أزمة وتداعيات

11 أكتوبر 2015

النائب التونسي رضا شرف الدين الذي تعرض لمحاولة اغتيال

+ الخط -
ربما جاءت محاولة اغتيال عضو مجلس النواب التونسي عن حزب نداء تونس، رجل الأعمال ورئيس فريق النجم الساحلي لكرة القدم، رضا شرف الدين، في "التوقيت المناسب" الذي اختارته اليد الخفية. حرّكت الزّر وشغّلت الآلة القاتلة. هل أخطأت الرصاصة طريدتها؟ ربما، لكنها لم تخطئ التوقيت. جاءت محاولة الاغتيال التي لم تبح بعد بأسرارها، و قد لا تبوح، بعد ساعات من تقديم الوزير المكلف بالعلاقة مع مجلس نواب الشعب، لزهر العكرمي، استقالته، وهو أيضا من "نداء تونس". كما جاءت، بعد ساعات من تصريحات غريبة، يدّعي فيها الإعلامي التونسي، معز بن غربية، المحسوب على أوساط مالية قريبة من "النداء"، من منفاه الاختياري سويسرا، أن في حوزته الصندوق الأسود لكل العمليات الإرهابية التي عرفتها البلاد من اغتيال شكري بلعيد إلى عملية سوسة، مروراً بكل ما حصل من جرائم بشعة في مرحلة الانتقال الديمقراطي التي مرت بها تونس.
لن تعنينا تلك التفاصيل والحيثيات، لأنها، في الأصل، أعدت على طريقة أفلام هيتشكوك، بين الغموض والإثارة، تنسى التفاصيل ليُعاد الإيحاء بها بين فينة وأخرى، مزيجاً من التشويق والرعب. المشهد الذي يتم ترتيبه، بعناية فائقة وتعاون مثمر، بين المخرجين والممثلين، حتى ولو كانوا هواةً، أو كومبارس، هو تغيير المشهد السياسي الحالي، بعد سقوط كل السيناريوهات التي تم إعدادها بعد انتخابات أكتوبر/تشرين الأول 2011، وهي سيناريوهات لا تقتضي قبر تجربة التحول الديمقراطي في تونس فحسب، بل جرّ حركة النهضة إلى ثلاثة خيارات، سجن أو منفى أو مقبرة. ولم تفتح النيابة العمومية في هذه التصريحات التي أدلى بهذا أكثر من طرف حول تلك السيناريوهات، وتكلفتها المالية والبشرية، أي تحقيق، بما فيها رغبة بعضهم، إثر اعتصام الرحيل، قلب الحكم حتى، ولو قتل عشرين ألفا، حسب ما قال بعضهم علناً. لم ييأس بعضهم من العودة إلى طرح تلك السيناريوهات، وقد انضم إلى الجوقة وافدون جدد من ممثلين ومخرجين وممولين، وكذلك سماسرة كثيرون، خصوصا أن السياق الإقليمي نضج أكثر من أي وقت مضى: التدخل الروسي في سورية، الانكفاء التركي بعد عودة الإرهاب داخليا، وتعثر دول الخليج في المستنقع اليمني، وتمطط الخارطة الإيرانية وأذرعها في المنطقة.
توحي تلك التفاصيل السابقة أننا أمام ترتيبات مشهد مقبل، سيكون شرطه قلب الحكومة حالياً، مع تبني التدرج من النعومة إلى العنف: دفع رئيسها، الحبيب الصيد، إلى الاستقالة، إثر موجة من استقالات جماعية لوزراء "نداء تونس" أو حلفائهم مثلاً، أو إقالته إن تعذر الأمر الأول... أو تبني سيناريوهات أكثر سوداويةً، لا يتصورها خيالنا المدني الصائم عن رؤية مزيد من الدماء تراق.
لم يعد ممكناً، بعد الآن، نفي الأزمة الحادة التي تمر بها منذ أسابيع، إن لم تكن أشهرا، حكومة الحبيب الصيد، خصوصا أن كل المؤشرات كانت تفيد بأن الحكومة منذ تشكلت معرضةٌ لمثل
ما يحدث حالياً. كانت ولادتها عسيرة، والكل يعلم أن نسختها الأولى تم رفضها، لتعدّل ببدلاء تسمّروا في كواليسهم. سلطت ضغوط من كل اتجاهات، من أجل التخلي عن أسماء مقابل انتداب جدد. ترضيات الثواني الأخيرة لطموحات الجماعات الضاغطة من هنا وهناك، فضلا عن الأحزاب، أذنت بميلاد تلك التشكيلة.
مشاعر الانتصار لدى الحزب الحاكم، ومشاعر الانكسار لدى حركة النهضة الخارجة بنصف هزيمة من انتخابات التشريعية والرئاسية، وطموحات الأحزاب الصغرى التي دخلت إلى نادي الكبار، أدت إلى قبول تلك التشكيلة التي كانت من لاعبين من مدارس مختلفة، ما جعل الأداء فيما بعد مخيباً وغير متجانس. وقد أخفق رئيس الحكومة في أن يكون مؤطراً جيداً لهذا الفريق، حتى إذا مرت أشهر قليلة، أصبح اللاعبون يخوضون ألعاباً خطرة، لحسابات شخصية أو حزبية، وربما لفائدة لوبيات ومافيات. تم اختراق الحكومة بشكل خطير.
لم تكن "النهضة" آنذاك ترغب سوى في أن تكون ممثلة، حتى و لو رمزياً، ويبدو أيضا أن جملة من المفاوضات الثنائية دفعت إلى تحقيق هدفين، ما كانت الحركة تحلم بها ليلة انتصار "نداء تونس" الذي اعتبر ذلك قطيعة مع مشروعها المجتمعي، وانتماء لتونس أخرى ممكنة، وقد أصبح الأمر حقيقة. انتشى الحزب بانتصاره الانتخابي الذي نفخ في صورة غول، فوسوست له نفسه السيطرة على الرئاسات الثلاث: مجلس نواب الشعب والجمهورية والحكومة. ولكن، ولأسباب قانونية وأخرى سياسية، اختار التضحية برئاسة الحكومة، فمصاعب الحكم في انتظاره.
جنّبت الحكومة الحالية حركة النهضة رعب الكوابيس الثلاثة التي أرعبتها: حكومة يقودها يساري استئصالي، أو ليبيرالي علماني متطرف، أو عزلها سياسياً في معسكر المعارضة، ودفعها إلى مربع ضيق من معارضة موتورة، لا يمكن لها أن تجد مسافة أمان بين الجبهة الشعبية، من جهة، وحزب المؤتمر وبعض حلفاء الأمس الذين لا ترغب "النهضة" في الاقتراب منهم مجدداً، من جهة أخرى، أو الوقوع تحت جاذبية التطرف الثوري. ومع ذلك، من الغباء اعتقاد أن الرياح سارت في ما اشتهت مراكبها دوماً. تم استهدافها، أكثر من مرة، بعزل محسوبين عليها وشيطنتها إعلامياً، كلما تم الضغط على الزر العجيب. إلى جانب تجفيف منابعها في أكثر من حقل، وفق وصفة بن علي في الحداثة والتنوير.
ستكون "النهضة" أول الخاسرين من مغادرة رئيس الحكومة الحالي موقعه، وهي فرضية واردة، خصوصا مع عودة يسار "نداء تونس" إلى قيادة حملة ممنهجة ضد الحركة "حليفهم اللدود" و"استدعاء ناخبيهم الذين تم خذلانهم إلى الدفاع عن البلاد". تتخمر القواعد مجدداً تحت لعلعة الرصاص، وفي ظل صراع قاتل بين الأجنحة المختلفة، يبدو أنها بصدد التملش (نسبة إلى المليشيات). ما عجزت عنه الضغوط، قد تدفع إليه الرصاصات الطائشة التي تناثرت على مقربة من مدينة سوسة. لم تخطئ الرصاصات طريدتها، بل ربما اختارت ما هو أفضل.

7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.