حملة انتخابية على وقع الإيقافات والإقالات
أُوقِفت، في الأسبوع الماضي في تونس، رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة، سهام بن سدرين، وهي الهيئة التي تولّت خلال عشرية الانتقال الديمقراطي ملفّ العدالة الانتقالية، الذي شفعته بتقريرها الختامي المُفصّل بالانتهاكات التي حصلت خلال تاريخ دولة ما بعد الاستقلال. تزامن ذلك مع إيقافاتٍ طاولت مسؤولين نقابيين في الخطوط الجوّية التونسية، تبعها مباشرةً إيقافُ المدير العام للشركة ذاتها. كذلك توالت تهمٌ وإقالاتٌ لمسؤولين محلّيين وجهويين، سواء في الإدارة العمومية أو في الشركات والمؤسّسات الحكومية. المآخذ، وحتّى التهم، جاهزةٌ طبعاً، وهي التقصير في "تنفيد المهام الموكولة إليهم والتواطؤ مع المتآمرين على الدولة والخونة والمُرتَمين في أحضان الخارج"، وهو الثالوث الذي يُلقي عليه الرئيس قيس سعيّد المشكلات كلّها، التي تواجهها البلاد، بما فيها الشُّحُّ المائي، والعجز في الطاقة... إلخ. ذهب الرئيس سعيّد ذات مرّة إلى اتّهام أشجار شارع الحبيب بورقيبة، التي تعود إلى عقود طويلة، بأنّها ليست بريئة. تحوّلت البلاد حفلةً تنكريةً كُبرى لا أحد بريء فيها، والجميع يَشكُّ في الجميع إلى حدّ الهلوسة والرعب. التهم التي وُجِّهت إلى هؤلاء الموقوفين هي عموماً سوء استخدام المال العام، وأشكال مختلفة من الفساد.
يبدو سعيّد في خطاباته قائداً لمعركة تحرّر وطني، ما يوفّر له مُعارِضين يمكن أن تمتدّ جبهتهم واسعةً
في مثل هذه الأجواء، يُكثّف الرئيس جولاته الحثيثة لزيارة مؤسّسات عمومية، ومنشآت مختلفة. يُبدي الرئيس تذمُّرَه وسُخْطَه على الخدمات التي تسديها، ويقول في شأنها ما لا تقوله المُعارَضةُ، مُعبِّراً عن شديد غضبه، لما آلت إليه الأمور. لا يمكن حتّى للمُعارَضة أن تقول ما يقوله الرئيس في شأنها. إنّه الرئيس المُعارِض على نحو يُذكّرنا بأسلوب العقيد مُعمَّر القذَّافي، الذي يتحوّل، وهو يملك سلطاتٍ مطلقةً في مناخ غابت فيه أدنى تعبيرات المُعارَضة، المُعارِضَ الأكبر.
يبدو الرئيس في خطاباته قائداً لمعركة تحرّر وطني، وهي المعركة التي تُوفّر له مُعارِضين يمكن أن تمتدّ جبهتهم واسعةً، "إنها جبهة داخلية ميمونة من طبقة سياسية فاسدة، خصوصاً تلك التي حكمت خلال عشرية الانتقال الديمقراطي". يندُر أن يشير الريس إلى من حكموا خلال عهد زين العابدين بن علي أو خلال عهد الحبيب بورقيبة. هذه الجبهة تضمّ أيضاً رجالَ الأعمال المُحتكِرين، وجيشاً من الإداريين المُتسلّلين إلى الإدارة لتجفيرها من الداخل، كما يُصرّ الرئيس على تذكيرنا دوماً. أمّا الجبهة الخارجية التي يخوض ضدّها الرئيسُ حربَه في معركة تحريره تلك، التي لن تنتهي قريباً، بل الأرجح أن تطول، فهي القوى الاستعمارية، والنظام العالمي الظالم، والخونة والمرتبطون بدوائر عالمية مشبوهة... إلخ.
على خلاف بعض التحليلات، التي ترى هذه المسائلَ عفويةً، فإنّ الأمور كلّها مُرتّبة بشكل مُحكَم، ولا شيء يخرج عن التوضيب المسرحي العام، بما يخلق مشهداً حاضراً لدى الرأي العام يوحي بشكل صريح وواضح بجملة من المسائل والرسائل، لعلّ أكثرها أهمّيةً أنّ الرئيس في عنفوان نشاطه الجسدي والذهني. تحتفي صفحات وسائل التواصل الاجتماعي بأنّ الرئيس يعمل خارج مكتبه في حرارة تجاوزت 45 درجة مئويّة، ولقد تزامنت تنقّلات الرئيس مع موجة حرٍّ تضرب البلاد، واستمرّت لأكثر من أسبوع تقريباً.
أمّا الرسالة الثانية، فإنّ الحرب تتواصل بلا هوادة ضدّ خصوم الرئيس، بقطع النظر عن براءتهم. لا يفرز الرئيس ضحايا الإيقافات والإقالات، فقد تشمل حتّى أنصاره أو من عيَّنهم هو نفسه في مناصبَ عُليا، بعد أن احتكر، منذ أن سنَّ بشكلٍ مُنفردٍ دستورَ 2022، هذه المهمّة، التي كانت في دستور 2014 موكولةً إلى رئيس الحكومة أو إلى الوزراء. على خلاف ما جرت عليه العادة، حتّى في الأنظمة الأكثر تشدّداً وتسلّطاً، التي تعمد إلى هدنةٍ أو تلطيفٍ أو إلى مبادراتِ انفراج، يمضي الرئيس سعيّد في معركته مع خصومه إلى أقصاها. صورة الرئيس، الذي لا يصالح ولا يهادن ولا يفاوض، هي جزء من حملته الانتخابية، التي ترسم صورة الرئيس المبدئي، الذي يستميت في معركته إلى لحظة الانتخابات، وما بعدها. يوحي الرئيس أنّه يحتاج عهدةً ثانيةً لإكمال معركته، وتحقيق برنامجه، وقد عبّر في إحدى خطبه أخيراً عن أنّه "غريب"، غربة صالحٍ بين قومه ثمود.
تتواصل الحرب ضدّ خصوم سعيّد، بقطع النظر عن براءتهم، وقد تشمل أنصاره
يُذكّر الرئيس خصومه، سواء بأنشطته المُكثّفة خلال هذه الأسابيع الحاسمة في الحملة الانتخابية أو بحملة الإيقافات والإقالات، التي تسارعت وتيرتها، أنّه اللاعب الوحيد والأفضل، الذي سيضمن للبلاد مستقبلاً زاهراً، وهي تعبر علوَّها الشاهق، كما يقول. هذه الحركة الحثيثة، التي لا تهدأ، من شأنها أن "تصنع الحدث"، وتغطّي عدّة أحداث أخرى تطعن في سلامة المسار الانتخابي، بدءاً بالتشريعات التي فرضها الرئيس، سواء في الدستور أو في النصوص الترتيبية التي أصدرتها الهيئة العليا المُستقلّة للانتخابات، وانتهاءً بتلَكُّؤ السلطات الإدارية في منح المُترشّحين الوثائق اللازمة، ومنها بطاقة السوابق العدلية. هذه التضييقات، وغيرها، من شأنها أن تزيل "المُترشّحين الجدّيين"، وذلك ما دفع 11 مُترشّحاً إلى إصدار بيان يستنكرون فيه هذه التجاوزات الخطيرة كلّها، الأمر الذي يهدّد نزاهةَ الانتخابات.