مثقفون عراقيون بين مس بيل ومبعوثة بوش

29 اغسطس 2014

ناشطون في لندن يتظاهرون ضد الحرب على العراق (إبريل/2004/أ.ف.ب)

+ الخط -


لعل إرسال جورج بوش الابن مستشارته السامية للأمن القومي، ميغان أوسوليفان، إلى العراق في عام 2004، لتسويق الأفكار الأميركية بشأن الاحتلال بين أوساط المثقفين، ذكّر العراقيين بمس بيل التي استخدمها الاحتلال البريطاني للعراق في 1917، لتكون في طليعة المرافقين للاحتلال آنذاك. ولكن، شتان بين الاثنتين.

وكانت أوسوليفان قد تنبأت بما يحدث حالياً، وقالت إن العراق سيواجه أياماً عصيبة، ليس من السنة والأكراد، بل من الشيعة أنفسهم. عدم تحسن الأوضاع المعيشية للعراقيين، على الرغم من ثروات بلدهم النفطية، بسبب الفساد. والشارع العراقي، الآن، بات أقوى من البرلمان، ولم يطرأ أي تحسن في العراق على مستوى الخدمات منذ 2003، والعلاقة بين المركز والأقاليم كذلك. لكنها لم تتنبأ بظهور داعش، لكي تغيّر كل المعادلات السياسية في العراق.

وبالعودة إلى مس بيل، يبدو الفارق كبيراً للغاية، فقد كانت تلتقي المثقفين العراقيين، أو ما كان يطلق عليهم "الأفندية"، في المقاهي آنذاك، من أجل تقريب وجهة النظر البريطانية في الحكم الذي أرادته على غرار الحكم البريطاني، حتى لو لم يكن فيه ملك، فيمكن استيراده من الأردن، وهنا كان الملك فيصل الأول. وأكدت أنها يجب أن تعطي الحكم للسنّة، ولو كانوا أقلية، لأن اعطاء الحكم للشيعة يجعل من حكمهم طائفياً ومتطرفاً، حسب رأيها. وهذا ما نشهده حالياً، وفي أبرز تجلياته جيوش الميليشيات، التي ظهرت أخيراً، مثل عصائب الحق، التي قتلت 70 مصلياً بريئاً في ديالى أخيراً.

عندما احتلت بريطانيا العراق في 1917، ودخلت قواتها، أعلن الجنرال مود أن قواته محررة، ما أضحك مس بيل كثيراً. وهي عبارة استلها جورج بوش من فم الجنرال مود. وعلى إثر تلك الحملة، كانت بريطانيا أكثر ذكاءً من الولايات المتحدة، عندما أرسلت مع حملتها نخبة من المثقفين والخبراء والآثاريين، ليمهدوا الطريق إلى استعمار بلاد ما بين النهرين. لكن، سرعان ما نشب صراع بين سكرتيرة المندوب السامي آنذاك، بيرسي كوكس، وسكرتيرته المثقفة غيرترود بيل، أو مس بيل، الملقبة بـ "الخاتون"، أي السيدة المبجلة عند الأتراك. وقد كتب روبرت وورث في "التايمز" اللندنية في 2003، "إن غيرترود بيل هي من ذلك النوع من الإداريين المستعمرين الذين يفتقدهم مستعمرو العراق الجدد، أي الأميركيون، فقد كانت تجيد العربية والفارسية، وقضت عقداً من الزمن تذرع الصحراء العربية، وتُعد الخرائط وتتصل بزعماء العشائر العربية والملوك في المنطقة، قبل بداية الحرب العالمية الأولى، وبذلك، أصبحت تعرف بلاد الرافدين معرفة وثيقة، بحيث إن أحد أبرز شيوخ العشائر العراقية، حين سُئل عن الحدود الجغرافية لعشيرته قال: اسألوا مس بيل".

كان الاحتلال الأميركي نموذجاً للبربرية في أقصى حالاتها، وهذا ما لم يفهمه بعض المثقفين العراقيين، وراحوا يصفقون له، ويصدرون بيانات تأييده، لأنهم، ببساطة، لم يقرأوا التاريخ، ولو أطلعوا على سيرة مس بيل، لما وقعوا في فخاخ الاحتلال الأميركي. بيان 2004، الذي صدر عن مثقفين عراقيين يشكرون فيه بوش وتوني بليرعلى "مبادرتهما الشجاعة" "لتحرير" بلدهم، شاهد على تصفيقهم.

كثيرون هرعوا إلى بغداد بعد الاحتلال مباشرة، للحصول على المناصب والغنائم، لكنهم اصطدموا بواقع آخر، هو المحاصصة الطائفية، ربما لأنهم كانوا يحلمون أكثر من اللازم، لذا، سرعان ما عادوا إلى الأوطان التي أخذوا منها جنسياتها واستقروا بها. لكن، لم يجرؤ أحد منهم على طلب الاعتذار من الشعب العراقي، وشرح أسباب مساندته الاحتلال، وظلت تلك الشائبة في سيرته.  بعضهم لا يزال يرأس مكاتب ثقافية في الخارج، تحت تسميات مراكز الأبحاث والدراسات وغيرها.

المأساة التي نعيشها أن المثقفين العراقيين غائبون عن الأحداث كلياً، كأنهم يعيشون في قارة أخرى، لا توجد هناك بيانات ولا أفعال ولا أعمال إبداعية، تتزامن مع ما يحدث، إلا بعض الاستثناءات. يشهد المثقفون العراقيون تفكك بلدهم دون أية ردود أفعال منهم، لا شفاهية ولا مكتوبة ولا مسموعة. وكثر منهم، عندما تحك جلده قليلاً يظهر وجهه البشع: فهذا شيعي، وذاك سني، وذاك كردي قومي متعصب، وذاك داعشي من الخلايا النائمة، فلم يخطئ من قال إن العراق "ثريدة العالم"، ولكن، بالمعنى السلبي هذه المرة. أين حضارة وادي الرافدين، وعمقها الإنساني الغائر في الوجود؟

لا يزال من أيّد الاحتلال مستمراً في تأييد "العملية السياسية"، صار بعضهم يرطن، اليوم، بالوطنية والديمقراطية، يا للمفارقة!

قد يكون بعضهم غيّر قناعاته نحو الأفضل، لكن، من دون الاعتراف بالخطأ والاعتذار. يتكلم بعضهم باستحياء عن هذه الأخطاء، من دون أن يسميها، ويوجه بعضهم النقد الناعم لحكم المحاصصة الطائفية، في محاولة لكي يبرئ نفسه من المشاركة. ومن العار الكبير أن يقوم المثقفون الأميركيون والبريطانيون والفرنسيون والروس والعرب بكتابات تحليلية قيمّة عن الاحتلال الأميركي للعراق، فيما يلجأ مثقفون عراقيون إلى الصمت التام.

لا يزال بعض المثقفين يقفون موقف المتفرج من تفكيك العراق، وعودة البربرية إليه، واستبدال بيادق الحكم الطائفي في ساحة الشطرنج الصاخبة، والعبارات المتذاكية والمتثاقفة لا تخلق المثقف الحقيقي، أو العضوي، الذي يرى بعين ثالثة.

3442CCAB-1913-4DB8-8A09-49D66768B42E
شاكر نوري

إعلامي وروائي ومترجم عراقي، يعمل في الصحافة منذ 1970. له ثماني روايات. يحمل البكالوريوس والماجستير في الأدب الأنجليزي والدكتوراه في السينما والمسرح من السوربون، أقام في باريس 27 عاماً. نال جائزة ابن بطوطة لأدب اليوميات.