متى يدرك شهرزاد الصباح؟

16 يوليو 2015

ألف ليلة وليلة في طبعة مصرية

+ الخط -
كانت حكايات ألف ليلة وليلة من أهم العوامل التى أثرت على تشكيل الوجدان العربي، لأجيال متعاقبة، عقوداً بل وقروناً عديدة، ورسخت في العقل العربي، بشكل غير مباشر، مفاهيم وقيماً انعكست على مجمل السلوكيات، بأشكال وصور مختلفة، باختلاف الثقافات الفرعية لشعوب الوطن العربي. للوهلة الأولى، قد يبدو هذا الكلام غريباً، أو مبالغا فيه! فكيف لحكايات يغلب عليها طابع الخيال، تدور في عوالم سحرية، تتجاوز حدود الزمان والمكان، وتجري على لسان شهرزاد، عروس الملك شهريار الذي كان قد قرر أن يتخذ كل ليلة عروساً، وما إن يطلع عليهما الصباح، حتى يأمر سيافه مسرور بقتلها، انتقاما من كل جنس النساء بعد خيانة زوجته له. حتى جاء الدور على شهرزاد، الفتاة الجميلة التي وهبها الله العقل الراجح، والحيلة الواسعة، والقدرة الفائقة على الحكي، وابتكار وسرد الأساطير التي تمزج فيها بين الحقيقة والخيال. وبدأت شهرزاد لعبتها في ليلتها الأولى، فظلت تحكي طوال الليل، وشهريار مأخوذ بسحر العوالم الأسطورية التي أخذته إليها، حتى بلغت حكايتها قمة الإثارة مع إشراق الصباح، وقدوم مسرور السياف لتنفيذ الأمر المعتاد، فإذا بالملك شهريار يأمر بإرجاء التنفيذ لليوم التالي. وهكذا ليلة بعد أخرى، وشهرزاد تحلق بشهريار في عالمها السحري، حتى بلغت الليالي ألف ليلة وليلة، وأدرك شهريار في نهايتها حماقة قراره السابق، وأبقى على شهرزاد.

ذلك هو الإطار العام الذي تجري فيه حكايات ألف ليلة وليلة التي شغلت باحثين كثيرين، في محاولات لتحقيق أصول تلك الحكايات، وتتبع تطورها، وانتهت دراساتهم إلى أن الأصول تعود إلى غرب وجنوب آسيا، وبالتحديد إلى بلاد فارس والهند، وأنها مستمدة من حكايات فارسية قديمة معروفة باسم "ألف خرافة"، وبالفارسية "هزار أفسان".. وأول نسخة عربية ظهرت باسم ألف ليلة وليلة كانت في القرن الثاني عشر الميلادي في القاهرة، وترجمها إلى الفرنسية في عام 1704 المستشرق الفرنسي، أنطوان جالان، ومنها ترجمت إلى الإنجليزية في عام 1706، ثم إلى الألمانية في 1710، وبعدها إلى لغات أوروبية عديدة، وكانت تعرف باسم الليالي العربية، واهتم بها الغرب في إطار أنها تعبير عن الثقافة العربية المولعة بالخرافة والأساطير. ولم يتوقف الغرب عندها أكثر من ذلك، وربما اتخذت من بعض حكاياتها موضوعات لأفلام الترفيه والتسلية مثل حكايات سندباد، وعلي بابا والأربعين حرامين وغيرها.
وفي عالمنا العربي، كانت حكايات ألف ليلة وليلة، بالنسبة لنا، كنزاً لا ينضب، بعد أن أضفنا إليها، عبر كل تلك السنين، إبداعات كثيرة تحمل إسقاطات على ما كان يمر بالأمة من عصور ازدهار، وعصور انكسار، في حواضرها الشهيرة، من بغداد عاصمة الرشيد إلى القاهرة عاصمة السلاطين، بالإضافة إلى حكايات الحضارات الفارسية والهندية والرومية واليونانية، ووضعنا كل تلك الحكايات على لسان شهرزاد، تحكيها بأسلوبها الساحر الخلاب في لياليها الممتدة، وعشنا نقدمها للأجيال المتعاقبة، في صور أدبية وفنية تساير كل عصر، تم تقديمها سنين طويلة منسوخة وفي شكل مطبوعات وحروف مرصوصة، ثم مزينة بالرسومات والصور المعبرة بألوان جذابة. وعندما وصل إلينا عصر المذياع، حولناها إلى ما يعرف بالدراما الإذاعية، وعشنا سنوات مع الفنانة الراحلة، زوزو نبيل، وهي تجسد شهرزاد، وتنهي حلقتها كل ليلة بصوتها الناعس، وهي تقول .. مولااااي .. ثم نسمع صوت الديكة تصيح، والراوي يقول: وهنا أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح. ونحلق، نحن المستمعين، في الخيال، في انتظار الحلقة التالية. وعندما داهمنا عصر التلفاز، اجتهد المبدعون في تحويل حكايات ألف ليلة وليلة إلى دراما مسموعة ومرئية، لنرى شهريار في مخدع قصره الأسطوري، وشهرزاد تحكي له ولنا حكاياتها الخلابة التي يتم تجسيدها في مشاهد حية، وتنتهي، أيضاً، كل حلقة بصوت شهرزاد الناعس، وهي تقول .. مولااااي. ثم صياح الديكة، في إشارة إلى أن شهرزاد أدركها الصباح، لتسكت عن الكلام المباح، والحقيقة أن شهرزاد لا يدركها الصباح أبداً، لأن النعاس يكون قد غلبها، قبل أن ترى خيوط الصباح.

أجيال وراء أجيال تعيش في عوالم حكايات ألف ليلة وليلة، الساحرة، سواء عبر الكتب المخطوطة والمطبوعة، أو عبر الوسائط المسموعة. وأخيراً، أضيفت الوسائط المتعددة أو المسموعة /المرئية، وعشنا مع سندباد، والشاطر حسن، وعلاء الدين ومصباحه السحري، وعلي بابا والأربعين حرامي، عشنا مع الملوك والسلاطين في قصورهم الأسطورية، ومع الفقراء من الرعية في أكواخهم البائسة، والحكايات تتنوع وتتطور من عصر إلى عصر، وتبقى شهرزاد تحكي، وكل الحكايات تبدأ وتنتهي عند حقيقة ثابتة، لا تتغير، هي أن الأمم والدول تقوم على ثنائية السلطة، ممثلة في الملك أو السلطان، وإلى جواره هيئة الحكم، أو أركان الدولة، ويمثلها الوزير، وقاضي القضاة، وصاحب العسكر والبصاصون، والحاجب، والحراس، والجلاد أو السياف، واسمه دائماً مسرور. ثم الرعية، أو الناس والشعب، وكلهم، بتقسيماتهم الطبقية، ما بين شهبندر التجار والتجار وأصحاب الحرف وعامة الناس، كلهم في خدمة السلطان وحاشيته، ولا شأن لهم بأمور الدولة والحكم، ولا حتى ما يتعلق بشؤونهم! فكل شيء رهن بإرادة الملك/ السلطان، والذي يأخذ أحيانا لقب الحاكم، مع ظهور شكل الجمهوريات في العالم العربي، في وقت متأخر.
سنوات وراء سنوات، وأجيال تعقبها أجيال، وشهرزاد مصرة في كل حكاياتها، على أن يكون ذلك هو شكل الحكم في أوطاننا، ملك معه حاشيته، ورعية تخضع لسلطانه، وتطلب رضاه. وفي هذا الإطار، تدور أحداث كل الحكايات، حتى تحول ذلك إلى موروث حضاري.
ولأن شهرزاد ليس في مقدورها أن تقدم لنا حكايات عن شعوب استردت حريتها، وفرضت إرادتها، أو عن شعوب ثارت من أجل كرامتها، وانتصرت ثورتها، ولن تستطيع أن تقدم لنا حكايات دارت في دول حقيقية، مدنية، ديموقراطية، حديثة، فيها الناس مواطنون، وليسوا رعايا، يتمتعون بالعدل والمساواة، ويمارسون المشاركة السياسية، ويتداولون السلطة في ما بينهم، ولأن شهرزاد ليس في مقدورها ذلك، لأن من يكتب لها الحكايات، ويصوّرها، هم كتبة السلطان وخاصته، فسيبقى الحال على ما هو عليه.
فمتى يدرك شهرزاد الصباح؟ صباح حقيقي، تشرق فيه شمس الحرية، فتسكت عن ذلك الكلام، وتستيقظ شعوبنا من تلك العوالم الخيالية، لتلحق بالعالم الحقيقي، لا عالم الحكايات.

2FABA6BB-F989-4199-859B-0E524E7841C7
عادل سليمان

كاتب وباحث أكاديمي مصري في الشؤون الاستراتيچية والنظم العسكرية. لواء ركن متقاعد، رئيس منتدى الحوار الاستراتيجى لدراسات الدفاع والعلاقات المدنية - العسكرية.