مترو الأنفاق ليس جهة انتحار

04 أكتوبر 2018
(من مترو القاهرة، 2018، تصوير أمير مكار)
+ الخط -

لعلَّ أهمّ ما جاء في التغطية الصحافية لظاهرة الانتحار قفزاً على قضبان المترو منذ بداية أيلول/ سبتمبر الماضي تعقيبات أحمد عبد الهادي المتحدّث باسم "شركة مترو أنفاق القاهرة" التابعة لوزارة المواصلات.

جاء كلام عبد الهادي عقب إنقاذ موظّف في "الشركة المصرية للاتصالات" كان قد قفز على القضبان في محطّة جمال عبد الناصر/معروف في وسط البلد، وقد بُترت ساقه تحت عجلات القطار، ما أدّى إلى تعطُّل سير الخطّ نحو 15 دقيقة.

ولم يُدرِك هذا المسؤول على الأرجح أنَّ في كلامه دُرَراً من الأدب ما بعد الحداثي، لكن تصريحه بأن "المترو ليس جهة انتحار" لم يكن مجرّد نُكتة كما عُومِلَ على شبكات التواصل الاجتماعي. لقد كان نموذجاً لتَطَوُّر الخطاب الرسمي، وإيذاناً ببدء عهد جديد من البلاغة.

فالجُملة لا تَفتَرض أن ثمّة جهة تختصّ بمساعدة الناس على قتل أنفسهم على طريقة الموت الرحيم مثلاً، وهو ما يبدو عبثياً في مصر رغم وجود جِهات كهذه في دول مثل هولندا. الجملة تَفتَرِض أن على المُواطِن الصالح ما إنْ يَعنّ له فِعل أيِ شيءٍ أن يذهب على الفور إلى الجهة الحكومية المختصّة لكي يفعله على نحو سليم.

فغَلطَة ذلك الموظّف ليست قَتْلَ نفسه ولا حتى الطريقة التي قَتَلَ بها نفسه وإنما كونه ذهب إلى محطّة المترو بدلاً من أن يَذهب إلى جهة انتحار متخصّصة، ذلك أن شركة مترو الأنفاق كما واصل عبد الهادي "ليس لها دخل من قريب أو بعيد بحالات الانتحار التي تحدُث داخل محطّاتها". وكأنه واردٌ أن يكون للشركة قسم للراغبين في إنهاء حياتهم على القضبان!

يعكس هذا الكلام ما في العقلية البيروقراطية منذ عهد الدولة المركزية من هَوَس التعلّق بسُلطة الدولة وكل ما يُمكن أن يدلّ عليها من أوراق وأختام بل ومكاتب أو "جهات". لكنه يعكس أيضاً قُدرة غير مسبوقة على التعبير التِلقائي عن العُصَاب المصاحِب لتلك الحالة، وهو عصاب - كونَه يَفتَرض الذنْب مُسبقاً في المُواطِن والمسؤول كليهما - يُذكّر بسوداوية كافكا، حيث يُحاكَم المواطن على جريمة لا يعرفها أو يمضي عمرَه محاولاً دخول مَقَرّ السُلطة عبر باب يظل موصداً في وجهه.

وإن كانت الجملة الأولى تبدو وكأنها خارجة من نصّ لـ نيكانور بارا مُؤسّس القصيدّة المضادة، فالثانية تُذكّر بالمَثَل الشعبي الشهير "اللي على راسه بطحة يحسّس عليها". الكل يعرف أن المسؤولين في مصر لم يكُفّوا عن تَحَسّس رؤوسهم طوال سبعين عاماً.

لقد شعر عبد الهادي بضرورة الدفاع عن نفسه مع أن أحداً لم يتّهمه بشيء، مِثلَ الشاهد الذي دفعه الذعر إلى اعتبار نفسه متّهماً في المسرحية الشهيرة. وكأنّ في انسداد الأفق والاكتئاب لدى الشباب اتهاماً موجّهاً لشخصه، أو على الأقل تشكيكاً في الكفاءة الإدارية للشركة الحكومية المنوط به الذود عنها أمام الإعلام. وإلا ما كان ليُبرّئ ذمّته من التورّط في حوادث الانتحار المطروحة.

لكنه يعود فيوضِّح في سياقٍ مُتّصل أن "الشركة تتكبّد خسائر كبرى بعد كل حالة"، مضيفاً أنه فَرَض "رقابة مشدّدة على جميع الأرصفة لمراقبة ما يحدث، وأيضاً مواجهة حالات الانتحار التي من الممكن أن تحدث في أي وقت". الانتحار إذن ليس سوى نشاط إجرامي يعطّل سير العمل ويتسبّب في هَدر الموارد. هنا يذكّرنا عبد الهادي بغريب كامو الذي اقترف جناية قتل ذات يوم حار بلا أي دافع. وكأن منتحر المترو يعتنق الفلسفة الوجودية.

لا سؤال عن الأسباب التي يمكن أن تَدفع مُوظّفاً من مواليد 1977 إلى فعل ذلك بدءاً من القيمة الشِرائية لدَخله بعد تعويم الجنيه المصري وليس انتهاءً بمستوى التعليم والرعاية الصحية المتاح أمام أولاده. فقط على الشركة وسواها من الجِهات الحكومية تتبّع المذنبين لمنعهم من الإضرار بالصالح العام متمثلاً في "أسرع وسيلة مواصلات بالقاهرة الكبرى".

وكأنما لتأكيد الدلالات العبثية لبلاغة عبد الهادي، تبرّعت سما المصري الفنّانة الاستعراضية المعروفة بفيديوهاتها "الخادشة للحياء" الأسبوع الماضي لإقامة أكشاك للتحاور مع الراغبين في الانتحار داخل محطّات المترو، على أن تُسمّى أكشاك "الحياة حلوة" ويديرها مختصّون في العلاج النفسي.

دلالات