متاعب الصحافة مع ترامب

25 يناير 2017
+ الخط -
بالنسبة إلى صحافيين كثيرين، فإن الرئيس الأميركي دونالد ترامب، كمادة صحافية، هدية من السماء نادراً ما يجود بها الزمان، فتصريحات الرجل وتغريداته وتصرفاته تصنع كل يوم مئات العناوين المثيرة بالنسبة لوسائل الإعلام الجماهيرية. لكن، في المقابل، عليهم أن يتحملوا الكثير من غَلاظتِه في القول، وفجاجة فكره وفَظاظة لسانه، فترامب هو نموذج السياسي الديماغوجي بامتياز، كل تصريحاته وإيحاءاته لا تخلو من الديماغوجية، تغريداته تبدو أحيانا تافهة وسطحية، ولا معنى لها، لكنها سرعان ما تفعل فعلها في الجمهور، عندما تردّدها الصحافة، وتتناولها بالتحليل والتمحيص، ما يحمّلها أكثر مما تحتمل.
نجح ترامب في تمويه الصحافة، منذ أعلن نيته ترشحه للرئاسة الأميركية. وطوال حملته الانتخابية، نجح ببراعة الديماغوجي في جعل وسائل الإعلام تركز عليه أكثر من أيٍّ من المرشحين الآخرين، من خلال التصريحات الغريبة التي كان يطلقها والتغريدات المستفزة التي كانت تجد طريقها بسهولة إلى عناوين كبريات الصحف وعناوين نشرات القنوات الإخبارية الكبيرة.
ترامب هو أيضا نموذج للسياسي القادر على الكذب وتصديق كذبه، وعلى الكذب والتنكّر لكذبه من دون أن يرفّ له جفن، فقد سبق له أن انتقد مخابرات بلاده وانتقد مديرها، وكان يكتب كلمة "مخابرات" في تغريداته بين قوسين تحفظا على الكلمة، أو احتقارا وتهكما على الجهاز. لكن عندما زار تلك المخابرات في عرينها في اليوم الثاني بعد تنصيبه، نفى أمام عملائها أن يكون قد انتقدها، وحمّل الصحافة سوء التوتر الحاصل بينه وبينها. وتكرّر الشيء نفسه مع الجدل الذي أثير حول عدد حضور حفل تنصيبه، مقارنة مع من حضروا حفل تنصيب سلفه باراك أوباما عام 2009، وعلى الرغم من أن الصور المقارنة كانت واضحةً وناطقةً، ولا تحتاج إلى تعليق، إلا أن الرئيس انبرى ينتقد الصحافة، ويشكّك في نزاهتها عندما قالت إن عدد من حضروا حفل تنصيبه كانوا أقل بكثير من حضور حفل تنصيب أوباما، ما أقلقه وأثار غضبه، فوصف الصحافيين بأنهم أكثر الناس خداعاً وأقلهم نزاهةً على وجه الأرض!
يتطلب مثل هذا النموذج من السياسيين نوعاً خاصاً من الحيطة والحذر منهم، لأنهم يكذبون كما
يتنفسون، وقادرون على قلب الحقائق وخلط الأمور، لصرف الذهن عما هو أهم بغرض التضليل والتمويه، فلا المنطق يصلح معهم لأنهم لا يقبلون قواعده، ولا أسلوب الجدال والنقاش يجدي معهم لأنهم يجدون راحتهم في النقاش والجدل بدون ملل، هدفهم هو التضليل والتمويه.
ومن حسن حظ الصحفيين الأميركيين أنهم يعيشون في بلد ديمقراطي، وإلا لتصرّف معهم رئيسهم الحالي تصرفاً آخر، فمن تابع أول ندوة صحافية عقدها ترامب، بعد أن فاز في الانتخابات، رأى كيف قمع بوقاحة، وعلى الهواء مباشرة، مراسل قناة سي إن إن، ولم يسمح له بطرح سؤاله، صارخاً في وجهه: "إصمت، إصمت، إصمت، لا تكن فظاً.. لا تكن فظاً.. لا تكن وقحاً"، واصفا أخبار القناة بالكاذبة واتهمها بالتزييف، من دون أن يترك الفرصة للصحافي للدفاع عن نفسه. وقبل ذلك، هاجم موقعاً إخبارياً، ووصفه بأنه مجرّد "كومة من القمامة" (!). وتذكّر تصرفات ترامب هذه مع صحافة بلاده بتصرّف أعتى الدكتاتوريين مع وسائل إعلام بلدانهم، حتى لو كانت من صنيعتهم وموالية لهم، ويحلينا تصرّفه مع مراسل "سي إن إن" على تصرّف دكتاتور عسكري، مثل عبد الفتاح السيسي الذي قمع، على الهواء مباشرة الصحافي، إبراهيم عيسى، ونهره مثل تلميذ يجلس أمامه في الصف: "مش هسمحلك تقول كلمة العسكر مرة تانية".
حرب ترامب مع الصحافة بالكاد بدأت، والأيام المقبلة قد تكون صعبة أمام الصحافة، وحرية الرأي والتعبير عموما في عهده. لكن، بإمكان الصحافة أن تجعل من عهد ترامب وما يحمله لها من تحدٍّ فرصة لإعادة الاعتبار لنفسها سلطة رابعة قادرة على النقد والتشكيك وطرح الأسئلة الصعبة والشائكة.
في آخر لقاء له مع الصحافة، وكأنه يتنبأ بمستقبلها المرعب مع الإدارة الأميركية الجديدة، دعا الرئيس السابق، باراك أوباما، الصحافيين إلى عدم الخوف والاستمرار في انتقاد سياسات البيت الأبيض، والتشكيك فيها، والاستمرار في توجيه الأسئلة المحرجة والمعقدة والصعبة إلى 
السلطات. وكان أوباما الذي يبقى واحداً من الزعماء القلائل المثقفين لمّاحاً، عندما ذكّر الصحافة برسالتها الجوهرية في الأنظمة الديمقراطية، وطالبها بأن تكون حازمةً في مراقبة عمل السلطات، ونقل المعلومات الكاملة بصدق إلى المواطن. ولم ينطق أوباما "نصائحه" هذه جزافا، فهو على اطلاع على التقارير التي أنجزت عن ترامب وميولاته المتقلبة وطبيعة شخصيته المزاجية، منذ وضع نفسه على سكة السباق نحو البيت الأبيض. وهو ما سيجعل الصحافة الأميركية في عهد ترامب أمام تحدٍّ كبير، إما أن تثبت أنها "محامية الشعب"، وتقف بقوة ضد الرئيس الذي يريد أن يخرس كل صوت مخالف له، وليس بالضرورة معارضاً له، أو تتحول إلى بوق دعائي لسياسي ديماغوجي ماهر "يعرف كيف يبيع القرد ويضحك على من اشتراه"، كما يقول مثل مغربي.
تتحمّل الصحافة الأميركية جزءاً كبيرا من المسؤولية في نجاح ترامب، فهي ساهمت في صنعه. والآن، وقد خرج المارد من القمقم، إنْ لم تروضه وتعقِله روّضها هو وابتلعها.
D6ADA755-48E0-4859-B360-83AB4BBB3FDC
علي أنوزلا

صحافي وكاتب مغربي، مدير ورئيس تحرير موقع "لكم. كوم"، أسس وأدار تحرير عدة صحف مغربية، وحاصل على جائزة (قادة من أجل الديمقراطية) لعام 2014، والتي تمنحها منظمة (مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط POMED).