09 سبتمبر 2019
مُبدعون في كل الأحوال
قالوا: "من شب على شيء شاب عليه"، وقالوا: "على ما نشأت صغيرا يصير من طباعك بقية عمرك"، وقالوا: "ما تتعلمه في صغرك ينقش فيك ويصطحبك إلى قبرك". أقوال صحيحة نسبيا، فكثيرا من الأمور التي تعوّدنا عليها في طفولتنا سرعان ما صارت جزءا من ميولاتنا وتصرفاتنا. ومن هذه الأمور ما نكتسبه انطلاقاً ممن يحيطون بنا حين نقلدهم فنصير مثلهم، ومنها ما له باستعداد في نفوسنا ونسميه موهبة وهواية، تجد الظروف، فتنمو فينا كما ينمو باقي أعضائنا. والإبداع من الأمور التي يستقبلها الموهوب الهاوي لها، فتصير نبتة تنمو في أعماقه، لتصبح بعد ذلك جزءاً من شخصيته، بل من أعماله التي تحتل موقع الواجب في حياته اليومية، فيأتيها في كل أحواله، في أفراحه وأتراحه، في حالاته وهو سليم مرح، وفي سقمه وهو طريح الفراش أو نزيل المستشفيات. المبدع الحقيقي مبدع بفطرته وبميولاته القوية نحو الإنتاج الفني لا يصده عن ذلك أي شيء، مهما كانت شراسته، فكما يحتاج إلى خبز وماء كي يظل على قيد الحياة، يحتاج إلى جرعات إبداعية متلاحقة متصلة أو منفصلة. المهم أنه يظل متشبثا بهذا الإبداع تشبثه بثوبه الذي يستر عورته وتشبثه بأنفاسه التي بها قوام حياته.
وانطلاقا من الحيثيات السابقة، قد يعجب الكثيرون ممن لا يعرفون حقيقة الإبداع وعلاقة المبدعين به، وهم يرون الكثيرين من الفنانين يحترقون ويكابدون ويقترضون من أجل إخراج إبداعاتهم إلى الوجود بلا طمع في الأجر المادي، وهم في أمَسِّ الحاجة إليه. وفي الآونة الأخيرة، كثيرا ما يفاجئنا فنانون على الشاشات وهم ضيوف للمستشفيات يرجون الالتفات إليهم قصد العلاج في الوقت الذي نظنهم أثرياء بما يقدمونه من إبداعات رائعة منذ فتوتهم إلى الآن.
من هؤلاء مسرحيون أمتعونا وأفادونا بمسرحيات تلامس همومنا وأحزاننا وأفراحنا وطموحاتنا، سافروا، وتدربوا واستعدوا، وتوقعوا النجاح والفشل من أجلنا، فخفقت قلوبهم وارتعشت أجسادهم، وحين رسا بهم العمر في المستوصفات، صاروا نَكِرات شبه مجهولين يرجون بملامحهم أن يُلتفت إليهم وقلما يحدث ذلك. من هؤلاء تشكيليون أحبّوا الألوان والأصباغ، تدربوا على مزجها وبلورتها بحثا عن ألقها الممتع الجميل، فاتسخت أناملهم وثيابهم وبذلوا من نقودهم ما اشتروا به لوازم عملهم الإبداعي الذي يحمل شقاءهم وسعادتهم في ذات الوقت.
من هؤلاء موسيقيون أتحفوا أسماعنا بأغانيهم وأنغامهم الجميلة، فصفقنا لهم كثيرا ووقفنا إجلالا وتقديرا لهم لكنهم حين أودِعوا المستشفيات وهم يئنون، لم يلتفت إليهم إلا القليل. وللإنصاف، ففي كل مجتمع محسنون يقدرون الإبداع فيتكفلون بمتطلبات استشفائهم لكنهم نادرون.
إنهم المبدعون، يتشبثون بالإبداع حتى الموت، فلا يهمهم في ذلك تكريمهم أو الكتابة عنهم، فهم كالأشجار تزهر وتورق وتثمر، فنستفيد منها الكثير، وقلما نذكر منافعها عرفانا بالجميل، بل منا من ينسى أو يتناسى فيقوم بقطعها دون أي سبب ظاهر، سوى أنها، لم يعد يعجبه منظرها في الحقل، أو تبين له أنها صارت تضايقه أمام منزله، وقس على ذلك ما تشاء.
المبدعون يجسدون ثقافة أوطانهم، يوجهون، ويحذرون من كل شيء يكدّر ألق الإنسانية وأمنها، ويتحملون مسؤولية تعميق النظر نحو أبعاد الإنسان في علاقته بأخيه الإنسان، يوقظون أحاسيس النبل فينا، يوسعون من نظرتنا نحو الواقع، يحرصون على إمتاعنا بالقدر الذي يفيدوننا عبر الإبداع، يقومون بذلك باذلين جهودهم باستمرار وبسخاء وشقاء حتى الموت، فهل من ملتفت إلى المهمشين من هؤلاء، وهم كُثرٌ، بعضهم قضى نحبه وبعضهم ينتظر؟
من هؤلاء مسرحيون أمتعونا وأفادونا بمسرحيات تلامس همومنا وأحزاننا وأفراحنا وطموحاتنا، سافروا، وتدربوا واستعدوا، وتوقعوا النجاح والفشل من أجلنا، فخفقت قلوبهم وارتعشت أجسادهم، وحين رسا بهم العمر في المستوصفات، صاروا نَكِرات شبه مجهولين يرجون بملامحهم أن يُلتفت إليهم وقلما يحدث ذلك. من هؤلاء تشكيليون أحبّوا الألوان والأصباغ، تدربوا على مزجها وبلورتها بحثا عن ألقها الممتع الجميل، فاتسخت أناملهم وثيابهم وبذلوا من نقودهم ما اشتروا به لوازم عملهم الإبداعي الذي يحمل شقاءهم وسعادتهم في ذات الوقت.
من هؤلاء موسيقيون أتحفوا أسماعنا بأغانيهم وأنغامهم الجميلة، فصفقنا لهم كثيرا ووقفنا إجلالا وتقديرا لهم لكنهم حين أودِعوا المستشفيات وهم يئنون، لم يلتفت إليهم إلا القليل. وللإنصاف، ففي كل مجتمع محسنون يقدرون الإبداع فيتكفلون بمتطلبات استشفائهم لكنهم نادرون.
إنهم المبدعون، يتشبثون بالإبداع حتى الموت، فلا يهمهم في ذلك تكريمهم أو الكتابة عنهم، فهم كالأشجار تزهر وتورق وتثمر، فنستفيد منها الكثير، وقلما نذكر منافعها عرفانا بالجميل، بل منا من ينسى أو يتناسى فيقوم بقطعها دون أي سبب ظاهر، سوى أنها، لم يعد يعجبه منظرها في الحقل، أو تبين له أنها صارت تضايقه أمام منزله، وقس على ذلك ما تشاء.
المبدعون يجسدون ثقافة أوطانهم، يوجهون، ويحذرون من كل شيء يكدّر ألق الإنسانية وأمنها، ويتحملون مسؤولية تعميق النظر نحو أبعاد الإنسان في علاقته بأخيه الإنسان، يوقظون أحاسيس النبل فينا، يوسعون من نظرتنا نحو الواقع، يحرصون على إمتاعنا بالقدر الذي يفيدوننا عبر الإبداع، يقومون بذلك باذلين جهودهم باستمرار وبسخاء وشقاء حتى الموت، فهل من ملتفت إلى المهمشين من هؤلاء، وهم كُثرٌ، بعضهم قضى نحبه وبعضهم ينتظر؟
لحسن ملواني
كاتب مغربي. يعبّر عن نفسه بالقول "الإبداع حياة".
لحسن ملواني