09 سبتمبر 2019
حوار مع مبدع
عاش منزويا، لا يرافقه سوى ظله، حين يغرِّبُ الناس يشرِّقُ، وحين ينامون يظل مستيقظا يتأمل في الفراغ المحيط به، يعيش مطمئنا على هامش المهرجانات والحفلات الصاخبة، يتأمل أكثر ولا يتحدث إلا قليلا. ولأنني مهتم بالإبداع وأموره، فقد شغلني انتهاز فرصة لمحاورته كي أرى رأيه في الإبداع، وهو المبدع المشهود له بخبرته ورفعته فيه. في يوم الاثنين استقبلته في مقهى بالحي الذي نقطنه فجرى بيننا الحوار التالي: أراك منعزلا عن الناس، هل هذا هو سر براعتك الإبداعية؟
صمت قليلا، ثم شرع في الحديث: الانعزال عن الناس ليس مفارقتهم مفارقة قطعية، فما دمت تعيش في عالم الناس، فإنك واحد منهم، تشاركهم وتفكر معهم وأنت مختلط بهم وقد تعايشهم وأنت بعيد عنهم، تستمع لأقوالهم وتتأمل في أفعالهم، فتصير القارئ لمجريات حياتهم وعلاقتهم قراءة عميقة تستطيع تحويلها إلى نص جميل يحمل التشخيص والدواء والعلاج الناجع، نص يجد فيه الناس مبتغاهم ونجاتهم. واعْلمْ أني، وإن كنت على مسافة من الناس، أستشعر الرغبة القوية التي تستبد بي لمعرفة بواطن الأمور وأسبابها ومنطلقاتها ومصائرها، ناظرا إليها من مناح متعددة. أنا دؤوب على اكتشاف الحقائق بلا واسطة، بل بالتأمل العميق في معطياتها، إن ترك مسافة بينك وبين غيرك أمر ضروري للتأمل والتمحيص وتحليل المعضلات المعقدة، وفي ذلك تحدٍّ لمن يريد تجريب مدى حكمته وخبرته في التحليل والتشريح لمختلف الأحداث والوقائع كي يتمكن من توصيفها الحقيقي ونسج الإنتاج الإبداعي إزاءها بشكل يفيد الغير.
سألتُ: ما الذي يميزك ويجعلك لا تخاف أقوال الناس فيك وأنت المنعزل المترفع عن مخالطتهم في جل وقتك؟
أجاب: اعلم يا صديقي أن المبدع مختلف عن غيره، وهذا الاختلاف ذاته هو الذي وهبه صفة "مبدع"، فلو كان عاديا مثل الآخرين لكان عاديا مثلهم ولن يكون مبدعا، فالاختلاف يأتي به المبدع، والإبداع هو الإنتاج الفني المغاير للمعتاد والمعهود. فالإبداع الجيد يحمل فكرة فريدة لها علاقة بالحياة ومتاعبها أو أفراحها عبر تركيبات فنية مبنية على خبرة وتجربة عريقةّ.
والاختلاف يأتي ممن ينشد التغيير نحو الأفضل، لقد جاء الأنبياء مختلفين في تصرفاتهم مع أقوامهم، وقد كانت دعواتهم مرفوضة في البداية، لكن بعد مدة اتبعهم الناس لكونهم لم يأتوا إلا بما في صالح حياتهم وشؤونهم. فأنا لا أخاف الاختلاف ما دمت لا أضر أحدا ولا أعتدي على حرمات غيري، ولا أخاف من أقوال هذا أو ذاك، علما أننا لا يمكننا أن نرضي الجميع، فالمخالط أو المنعزل أو منْ بينهما لن يسلم من أقوال الناس، فإن لم تتهم بالتهريج اتهمت بالبكم، وإن لم تتهم بالضعف والليونة اتهمت بالعنف، وإن لم تتهم بالإسراف اتهمت بالتقتير..
سألت: ألا يتعبك الإبداع؟ ولِمَ صارت نتاجاتك الإبداعية متلاحقة منذ أن عرفتك؟
أجاب: اعلم يا صديقي أن الإبداع هوايتي، وحين تهوى عملا، فإنك تستمتع به استمتاعا فتدمن عليه، فبه تستعيد بهجتك وتوازنك، وحين نجد شخصا يحب عمله مهما كان شاقا، فاعلم أنه يهواه ويعتبره واجبا وضرورة حياتية كالخبز والماء. فالمدخن لن يتعبه التدخين، ويصعب عليه مفارقته مهما قيل عن أضراره، فقد صار لديه ضرورة بيولوجية لا بد من إشباعها.
سألت: وهل للإبداع أهمية غير المتعة؟
أجاب: يبدو أنك لم تستوعب كثيرا من الأمور التي تحدثنا عنها سابقا، فالإبداع غير مقتصر على نص أدبي أو لوحة تشكيلية، الإبداع هو ما يميز الكائن البشري عن غيره من الكائنات الأخرى، فكل إنسان يبحث عما يضفي على عمله مسحة إبداعية، فالصباغ والبنَّاء والحداد والخياط يمتعه جعْلُ ما يقوم به يحمل بصمته الفنية بشكل أو بآخر. أخيرا، سيظل الإبداع رفيقنا ما دمنا أحياء، بل ونحن أموات، ألم تشاهد من يزخرف قبر أبيه ويضع على جنباته باقات الزهور بشكل متناسق؟ ألم يشيد "شاه جيهان" مَعْلمته التاريخية الشهيرة "تاج محل" قبْرا لامرأته التي كان يحبها حبا ملك عليه قلبه؟
صمت قليلا، ثم شرع في الحديث: الانعزال عن الناس ليس مفارقتهم مفارقة قطعية، فما دمت تعيش في عالم الناس، فإنك واحد منهم، تشاركهم وتفكر معهم وأنت مختلط بهم وقد تعايشهم وأنت بعيد عنهم، تستمع لأقوالهم وتتأمل في أفعالهم، فتصير القارئ لمجريات حياتهم وعلاقتهم قراءة عميقة تستطيع تحويلها إلى نص جميل يحمل التشخيص والدواء والعلاج الناجع، نص يجد فيه الناس مبتغاهم ونجاتهم. واعْلمْ أني، وإن كنت على مسافة من الناس، أستشعر الرغبة القوية التي تستبد بي لمعرفة بواطن الأمور وأسبابها ومنطلقاتها ومصائرها، ناظرا إليها من مناح متعددة. أنا دؤوب على اكتشاف الحقائق بلا واسطة، بل بالتأمل العميق في معطياتها، إن ترك مسافة بينك وبين غيرك أمر ضروري للتأمل والتمحيص وتحليل المعضلات المعقدة، وفي ذلك تحدٍّ لمن يريد تجريب مدى حكمته وخبرته في التحليل والتشريح لمختلف الأحداث والوقائع كي يتمكن من توصيفها الحقيقي ونسج الإنتاج الإبداعي إزاءها بشكل يفيد الغير.
سألتُ: ما الذي يميزك ويجعلك لا تخاف أقوال الناس فيك وأنت المنعزل المترفع عن مخالطتهم في جل وقتك؟
أجاب: اعلم يا صديقي أن المبدع مختلف عن غيره، وهذا الاختلاف ذاته هو الذي وهبه صفة "مبدع"، فلو كان عاديا مثل الآخرين لكان عاديا مثلهم ولن يكون مبدعا، فالاختلاف يأتي به المبدع، والإبداع هو الإنتاج الفني المغاير للمعتاد والمعهود. فالإبداع الجيد يحمل فكرة فريدة لها علاقة بالحياة ومتاعبها أو أفراحها عبر تركيبات فنية مبنية على خبرة وتجربة عريقةّ.
والاختلاف يأتي ممن ينشد التغيير نحو الأفضل، لقد جاء الأنبياء مختلفين في تصرفاتهم مع أقوامهم، وقد كانت دعواتهم مرفوضة في البداية، لكن بعد مدة اتبعهم الناس لكونهم لم يأتوا إلا بما في صالح حياتهم وشؤونهم. فأنا لا أخاف الاختلاف ما دمت لا أضر أحدا ولا أعتدي على حرمات غيري، ولا أخاف من أقوال هذا أو ذاك، علما أننا لا يمكننا أن نرضي الجميع، فالمخالط أو المنعزل أو منْ بينهما لن يسلم من أقوال الناس، فإن لم تتهم بالتهريج اتهمت بالبكم، وإن لم تتهم بالضعف والليونة اتهمت بالعنف، وإن لم تتهم بالإسراف اتهمت بالتقتير..
سألت: ألا يتعبك الإبداع؟ ولِمَ صارت نتاجاتك الإبداعية متلاحقة منذ أن عرفتك؟
أجاب: اعلم يا صديقي أن الإبداع هوايتي، وحين تهوى عملا، فإنك تستمتع به استمتاعا فتدمن عليه، فبه تستعيد بهجتك وتوازنك، وحين نجد شخصا يحب عمله مهما كان شاقا، فاعلم أنه يهواه ويعتبره واجبا وضرورة حياتية كالخبز والماء. فالمدخن لن يتعبه التدخين، ويصعب عليه مفارقته مهما قيل عن أضراره، فقد صار لديه ضرورة بيولوجية لا بد من إشباعها.
سألت: وهل للإبداع أهمية غير المتعة؟
أجاب: يبدو أنك لم تستوعب كثيرا من الأمور التي تحدثنا عنها سابقا، فالإبداع غير مقتصر على نص أدبي أو لوحة تشكيلية، الإبداع هو ما يميز الكائن البشري عن غيره من الكائنات الأخرى، فكل إنسان يبحث عما يضفي على عمله مسحة إبداعية، فالصباغ والبنَّاء والحداد والخياط يمتعه جعْلُ ما يقوم به يحمل بصمته الفنية بشكل أو بآخر. أخيرا، سيظل الإبداع رفيقنا ما دمنا أحياء، بل ونحن أموات، ألم تشاهد من يزخرف قبر أبيه ويضع على جنباته باقات الزهور بشكل متناسق؟ ألم يشيد "شاه جيهان" مَعْلمته التاريخية الشهيرة "تاج محل" قبْرا لامرأته التي كان يحبها حبا ملك عليه قلبه؟
لحسن ملواني
كاتب مغربي. يعبّر عن نفسه بالقول "الإبداع حياة".
لحسن ملواني