مبادرات "غامضة"

04 يناير 2015

دخان قصف على حلب (30 ديسمبر/2014/الأناضول)

+ الخط -
في بداية ولايته الرئاسية (2007ـ2012)، أطلق نيكولا ساركوزي مشروع "الاتحاد من أجل المتوسط". وتبين للمراقبين، في الوهلة الأولى، هشاشة بنيته وخلوّه من المضمون. دفع هذا الغموض مجموعات بحثية، كما دوائر رسمية معنية، إلى عقد ندوات في سعي إلى استنباط مضامين واضحة للمشروع. وفي جهدهم لتحديد معالم وخلفيات إطلاقه، طوّر المحللون ثلاثة أسباب، يتمحور أولها حول السعي إلى إدخال تركيا في وحدة إقليمية اقتصادية، تحجب عنها طموح الانتماء إلى الاتحاد الأوروبي. أما ثانيها، فقد تبيّن أنه رغبة في إدماج مستبدين متوسطيين (الأسد، مبارك، بن علي مثلاً وليس حصراً) في عمل إقليمي، بعيداً عن قيود مسار برشلونة (1995) الذي وضع معايير مرتبطة بالحقوق والحريات الأساسية. وثالث الأسباب تجسّد في الرغبة إلى إدخال إسرائيل في العائلة المتوسطية، بعيداً عن معوقات الملف السياسي المرتبط باحتلالها الأراضي الفلسطينية. ومع كل ما سبق، ظلّ المشروع خالي الوفاض عملياً، وما زالت المساعي مستمرة منذ إطلاقه لإيجاد معنى واضح له.
وفي إطار مفهوم الغموض "غير البنّاء" نفسه، انطلقت، في الأسابيع الأخيرة من العام المنصرم، مبادرات دبلوماسية عدة، تتعلق بالسعي إلى وقف المقتلة السورية. وكان أوضحها
 غموضاً خطة "تجميد الصراع" في مدينة حلب، والتي تبنّى تسويقها المبعوث الأممي الجديد ستيفان دي ميستورا. وبعد فترة من التساؤل حول الفكرة ومضامينها، ارتاح بعضهم إلى العملية التشاركية التي وصمت أسلوب دي ميستورا الذي بدأ عملية تقصّي آراء وتجميع أفكار ولقاء أطراف متعددة معنية بالمقتلة السورية. وكان بعضهم ينظر إلى هذا الأسلوب وكأنه رغبة في تقاسم الأفكار وإقناع الإرادات حول مشروع قائم، وواضح المعالم والأهداف. وبعد فترة وجيزة، ومن خلال البناء على التصريحات المتعددة، كما الشهادات الحيّة، لمن شارك في اللقاءات والمشاورات، تبين أن المبعوث الأممي أطلق فكرة عامة، وبدأ في عملية تجميع المضمون على مبدأ "من كل بستان وردة"، أو "من كل جبهة، نقطة دم". واقتنع كل من قابلوه بأنهم أثّروا فيه وفي مضمون خطته. وربما حنكته الدبلوماسية، إضافة إلى قربه الشديد من مجموعة سانت إيجيدو التفاوضية في روما، قد مكّناه في إقناع محاوريه بأنه مصغٍ جيد. يُضاف إلى حسن النيات تلك، أن الوضع الإنساني الكارثي في هذه المدينة الشهيدة لم يعد يحتمل ترف النقاشات، فهي تتعرض لأبشع أنواع القصف والحصار والتهجير، وحيث لم تستطع كل الهيئات الأممية المساعدة، ولو في الحد الأدنى، في تخفيف معاناة سكانها.
المشروع إذاً، وفي معالمه الحالية، ليس وقف إطلاق للنار وليس هدنة. والأسئلة المتعلقة به يمكن أن تطرح إلى ما لا نهاية لغموضه الجليّ. فهل سيحتاج تطبيقه في صيغته المقترحة (وما هي؟) إلى قوى حفظ سلام دولية أو عربية أو إقليمية؟ وما صلاحياتها وحدود عملها؟ هل سيراقب حسن تطبيق المشروع موظفون أمميون بصلاحيات، أو من دون صلاحيات، كما جرت عليه العادة؟ وكيف سيتم فرضه؟ عبر مجلس الأمن والفصل السابع، أم كما بدا من تصريحات المبعوث توافقياً (بين من ومن)؟ هل سيعني التجميد، أيضاً، انسحاب القوات الأجنبية العاملة لدى جانبي الصراع؟ هل سيكون اللبنانيون والعراقيون وغيرهم في مليشيات القتل الطائفي معنيين بهذا الانسحاب؟ هل سيغادر جهاديو الموت لدى القوى المتطرفة من الطرف الآخر؟ من سيستطيع أن يفرض عليهم هذا الانسحاب؟ أية قوى معارضة سياسية سيكون لديها السيطرة العسكرية والسياسية والأخلاقية على الفصائل المُحاربة/المُتحاربة على الأرض؟ من سيكون له القدرة على فرض الانسحاب على قوى، من أية جهة أتت، وجودها مرتبط باللصوصية والتطهير الإثني؟ ما الخطوات اللاحقة للتجميد المقترح؟ هل ستعمم التجربة لتكون بداية مسار حل سياسي فعلي وفعّال في مجمل البلاد؟ كيف للجيش السوري الحر أن يفرض التجميد، إن وافق عليه واقتنع به، على إخوته الأعداء، من دون أية إمكانات مادية وتسليحية للسيطرة على الأرض؟
استيقظ الدب الروسي متأخراً. وخروجاً عن عادة السبات الشتوي المُحبّذ له، أطلق مبادرة غموضها مدعومٌ بضعف الثقة المستحقة التي بنت عليها موسكو سمعتها السياسية، من خلال دعمها المادي والمعنوي موت السوريين. وهي، أيضاً، تسعى إلى تأجيج خلافات المعارضة، لتزيد من تفسّخها. ويظل بعضهم يخشى من تكامل مقصود، أو عفوي، بين المبادرتين، الروسية والأممية، ما يُفقد الثانية صبغة الحياد النسبي.
يضاعف المبعوث الأممي من جهوده ولقاءاته، لتضمين مشروعه بنية واضحة، ولمحاولة الإجابة على كل هذه الأسئلة. وعلى الرغم من ضعف الأمل، إلا أن على قوى المعارضة التعامل معه بجدية وبعقلانية. ويجب السعي إلى تضمين المشروع بالمحتوى الإيجابي لدرء خطر تكرير تجربة القوقعة الفارغة التي تمخض عنها مشروع هلامي، كما "الاتحاد من أجل المتوسط". كذلك يجب أن تتمكن المعارضة السورية من التوافق على منهجية سياسية، تبعد المشروع، قدر الإمكان، عن السيناريو الروسي. ثقة مشروطة بالمبادرة الأممية، وشكّ مشروع بالمبادرة الروسية.