ما وراء الأسوار

20 يناير 2015
+ الخط -
كانت لديَّ على الدوام رغبة نقل المعرفة إلى الآخر. ليس فقط المعرفة الفكرية، بل أيضاً المشاهد التي تؤثّر فيَّ، والانطباعات والأحاسيس التي تتركها الأمكنة والأشخاص والأحداث في حنايا ذاتي. أشعر أنه من واجبي فعل ذلك، وعدم ترك العوالم الجمالية التي أدركها، وقفاً عليَّ وحدي. 
لكنّه لم يخطر على بالي يوماً، وهو أمرٌ لا يخطر على بال، أن هذه الرغبة ستؤدّي إلى أفعال غير متوقّعة عند من يصغي إليَّ، وصلتْ هذه المرة إلى خاتمة مأساوية، تقضّ مضاجعي وتدمي قلبي.
فأنا أتكلّم أحياناً على أمور حديثة العهد، وأحياناً أخرى أستعيد ذكريات مرّ عليها زمن طويل. لكنّي أستعيدها بدقّة ووضوح، كأنّها تعود إلى يوم أمس. وهي ملكة لديَّ ورثتها على الأرجح من أمي. إذ هي قادرة اليوم على العودة، في لحظة، تسعين عاماً إلى الوراء، واستعادة مجريات طفولتها بقوة حضورها الأوّل.
هكذا، يطيب لي سماعها وهي تخبر، مثلاً، بصوتها الهادئ، الجميل، كيف كانت تمضي، قبل أربعة وثمانين عاماً، وهي في الثامنة من عمرها، بعض الصيف، في كروم البعول، في السفح الغربي لجبل المكمل، عند عمّتها سليمة، فتذكر أصناف العنب كلها، بأسمائها وأوصافها وطعم كل منها ، كما تذكر الورود والأزاهير البريّة، بتنوّع أشكالها وألوانها، والعصافير والفراشات، وتلاوين الفجر والغسق ورهبة الليل وأصواته في ذلك المكان، فتنقل سامعها إلى عالم سحري تلاشى من زمان. 
وتتوقف أحياناً، وهي تُخبِر، عند ذلك المساء الذي أرسلتها فيه عمتها، بعد الغروب، لملء الإبريق من العين، وقد تعالى نقيق الضفادع. وما إن اقتربت من المكان، حتى رأت على ضوء القمر الطالع، امرأة عارية تستحم في بركة العين، وشعرها الطويل مسدل على ظهرها. ارتعبت عائدة أدراجها بسرعة لتخبر عمتها بما رأت. هدّأت العمّة من روعها ووعدتها بألا ترسلها إلى العين بعد غياب الشمس. وأدركت أمي بعد سنين، أن المستحمّة لم تكن طيفاً ولا سراباً، بل امرأة معروفة، مضطربة الذات، درجت على إطفاء لهيب روحها في تلك البركة الباردة المظلمة.
لكن الأمر الذي أدّى حديثي عنه إلى المأساة، كان جدّ بعيد عن عوالم أمي، إذ يرتبط بحبّي لمدينة سان مالو البحرية، في طرف بلاد البروتانيه، على شاطئ المحيط. ومع أني لم أزرها وأقم فيها إلا مرتين متباعدتين فقط، فقد ولجتُ روحها، وأضحت من "مدن الداخل"، داخل نفسي، شأنها شأن باريس وبروج وأرل والبندقية وروما وفلورنسا وأورليان وفيينّا وسواها. 
هكذا، غالباً ما أخبر عن أسفاري وأتوقّف عند العديد من أمكنتها. وأنا تحدّثت مراراً عن سان مالو أمام الحلقة الضيّقة من أصدقائي، في أوقات شتّى، وعن تعلّقي الغريب بالمدن البحرية المسوّرة، الذي لا أدرك كنهه حقاً.
تكلّمتُ ذات يوم، عن المرّة الأولى التي عرفت فيها سان مالو، كونها ارتبطتْ بنشوء حبّ كبير في حياتي. كيف أقمنا في حينه في فندق صغير، خارج الأسوار، يفضي مباشرة إلى المحيط، وفي المرّة الثانية في فندق داخل الأسوار، كانت تطل غرفتنا فيه على جزر صغيرة، مبهمة، يغشاها الضباب. كان ذلك في فصل الشتاء حيث لا يذهب إلى هناك أحد. 
توقّفتُ في حديثي عند الليل العاصف، الحالك الظلمة. وكيف، ونحن متّحدان عميقاً في تلك الغرفة الخافتة، كانت الرياح العاتية في الخارج قد حرّرت المكان من كل ما فيه، فأضحى بكراً كما في مستهل الزمان، كما حرّرتنا، نحن، من دون أن ندري، من الماضي، ومن الآتي، وجعلتنا نغوص في الحاضر الداخلي، الدفين، الغامض، النائي، المشوب بوهم الأبدية.
تكلّمت على أمور عديدة أخرى. وبعد أن انصرف الحضور، وبقي معي الصديق الكاتب رئيف ف، الذي ألتقيه منذ أمد بعيد وأرتاح على نحو خاص لوجوده، قرأتُ له بعضاً من يوميات سان مالو، بصوت غلب عليه التأثر، وهو يصغي إليَّ كأنّه في حال انتقال، ومنها: "لم يوجد شيء قبل، ولن يوجد شيء بعد. فالذاكرة راقدة، والقلق راقدٌ أيضاً. ليس إلا جسدها الواحد، الماثل في لحظة اكتماله. لا اسم لها، ولا ماضيَ، ولا عمر، ولا هوية. مختصر الأجساد هي، ومختصر الأسماء منذ بدء الخليقة".
كانت مضت شهور طوال على ذلك اللقاء في "مقهى الوردتين"، حين اتصل بي رئيف، ذات صباح، وطلب مني معلومات مفصّلة عن إقامتي في سان مالو، ولا سيما عن الفندق الذي نزلتُ فيه، داخل الأسوار. زوّدته بكل ما أراد معرفته عن الفندق، وعن المدينة التي ينوي زيارتها. لم يذكر لي أنه سيكون برفقة امرأة كان متيّماً بها. لكنّي عرفتُ بذلك في ما بعد.
مطلع ذلك الخريف، انطلق رئيف وحبيبته، من بيروت إلى سان مالو. مرّا بباريس مروراً، واستقلا القطار، فور وصولهما، مجتازَين أراضي بلاد البروتانيه البهية. وعند دخولهم المدينة المسوّرة، اتجها إلى "فندق شاتوبريان" حيث أقمتُ قبل سنين، المشيّد في المكان الذي ولد فيه الأديب الرومنطيقي الكبير، والذي تُمكن منه رؤية الجزيرة الصغيرة التي تضمّ مدفنه. سأل رئيف عن الغرفة التي نزلتُ فيها. فتشوا عن اسمي في سجلّ الفندق، فوجدوه، وأعطوه ورفيقته غرفتي. كما أكرموهما لقاء ذلك، لا أدري لماذا، إذ إنهم لا يعرفونني.
كانت دنت ساعة الغروب. قام العاشقان بنزهة طويلة فوق الأسوار، ثم تمشّيا يداً بيد في شوارع المدينة القديمة وساحاتها، قبل ان يجلسا للعشاء على ضوء الشموع في مطعم صغير أحبه، كنتُ زوّدتُ رئيفاً اسمه وعنوانه. تأمّل رئيف طويلاً لوحة "الإبحار إلى العالم الجديد"، المعلّقة في صدر القاعة، وقد كنتُ حدّثته عنها. ثم عادا في وقت متأخّر إلى غرفتهما في الفندق حيث أمضيا ليلتهما الأولى. 
نهض رئيف باكراً وتأمّل وجه حبيبته النائمة نوم الأطفال، فطبع قبلة غير محسوسة على شفتيها، ثم شقّ الستارة قليلاً ونظر إلى الخارج الهادئ، البارد، فرأى قبالته في البعيد، قبر شاتوبران، تحوم فوقه النوارس البيضاء، ويفصله عن الفندق والأسوار ما يشبه السهل الرملي، سرعان ما قرر اجتيازه سيراً على القدمين، وصولاً إلى المدفن.
دلف رئيف سرّاً إلى الخارج، ثم وطأ الشاطئ وبدأ يسير في السهل. كان ابتعد مسافة ما، حين فوجئ، يا للهول، بالبحر يتقدّم نحوه، وقد أحاط بالمدفن الذي بات في لمح البصر فوق جزيرة، واستمرّ في تدفّقه السريع، المهول، في اتجاه الشاطئ. أدار رئيف ظهره، وأخذ يعدو مرعوباً نحو الفندق، والبحر في أثره. 
في هذا الوقت، استفاقت حبيبته فلم تجده قربها. نادته فلم يجب. استغربت الأمر، وبدأ ينتابها القلق. أزاحت الستارة لتنظر قليلاً إلى الخارج، فرأت رئيفاً يصارع اليمّ الذي أدركه. لم تصدّق عينيها للوهلة الأولى، ثم راحت تصرخ هلعاً، مستغيثة بأعلى صوتها. لكن سرعان ما قضي الأمر، وابتلعت الأمواج رئيفاً أمام ناظريها، وأمام أعين روّاد الفندق الذين استيقظوا على عجل وهرعوا إلى النوافذ، ولم يراودهم شك في أنهم يشاهدون حالة انتحار. 
كان رئيف قليل الأسفار، ولا يُجيد السباحة، وهو لم يرَ شاطئاً في حياته غير الشاطئ المتوسطي. لم يكن يعرف شيئاً عن المدّ والجزر على أراضي المحيط في سان مالو، حيث ينحسر البحر، بعيداً جداً داخل اليابسة، ثم يعود أدراجه، في حركته الأبدية، إلى مكانه. 

المساهمون