ما ترك لنا تاريخنا

26 اغسطس 2017
سلوى روضة شقير (1916-2017)
+ الخط -

نهض الشرق اليوم نهضته التي نقرأ عنها في صحف الأخبار، فكان يشعر في هذه النهضة العميقة، بحاجة إلى تلك المرأة الغائرة في عمق بيتها كالكنز الذي يغمره التراب، فبنى لها المدارس ورياض التربية، وأسس النوادي لنصرة قضيتها، وأيدها بالصحافة والتأليف حتى كان من ذلك الخير العميم الذي أيد نهضته ومركز وجودها.

ونحن نسمع اليوم عن زعامة النساء في الهند [...] وفي القدس ومصر وسورية وتركيا، بظهورهن فيها بمظهر الشجاعة والتضحية المغذية لجهد الرجال ونشاطهم والمنعشة للروح الوطني عموماً. ولكن هذا الذي نقرأ بأعيننا ونسمع بآذاننا، لم يكن كافياً في التأثير علينا، لأننا معشر الأفارقة نحن وحدنا الذين بقينا متمسكين بالحقيقة (الدين)...

إيه أيها التونسيون، ما أكبر فضيحتنا بين أمم العالم، التي تسعى للحياة والعزة من طريقهما الموصل! فنحن ما زلنا حتى الساعة، معجبين بما ترك لنا تاريخنا الأسود من عقائد وميول ننسبها للإسلام زوراً، لنتّقي بذلك صدمة الحق الغلّاب. ومع ذلك نؤمل أن تكون لنا نهضة صادقة... فإذا ما كذبنا الواقع الذي لا يؤمن بكذبنا، أثرت فينا الخيبة وأثارت اندهاشنا وجعلتنا نلتمس الأوجه السطحية لنعلل بها انخساف آمالنا، دون أن نفحص في أعماقنا عن مواضع الضعف فنحرقه دون رحمة بمشاعل الحياة.

حقاً إننا اليوم في دور انتقال. ولكنه إما إلى الموت وهو الظاهر من أحوالنا، وإما إلى البقاء، ومن الواجب إذا كنا نريد البقاء أن نتأهب لهذا الدور لنفوز فيه بالانتصار، مهما كانت العوامل التي تعمل لخيبتنا في الحياة.

فإذا نحن بقينا لا نفهم إلا أن لنا آمالاً نتمنى حصولها دون أن نفهم حقيقة الاستعداد الذي يجب علينا لها أو ندرك منابع القوة من أنفسنا فنبرزها، فقد برهنا بذلك على جهلنا بالحياة وحمقنا فيها وأنانيتنا الأثيمة وفقدنا أهلية اكتساب الحقوق. ثم لا نطمع بعد ذلك في غير الانحلال والموت.

هذا هو صوتي أرفعه عالياً بقدر ما لي فيه من قوة العقيدة وراحة الضمير. ولو أمكنني أكثر من هذا لفعلت. ويا ليتني كنت أستطلع أن أصرخ [...] عسى أن أزعج برعدي جميع الذين ما زالوا يغطّون في نومهم، غارقين في أحلامهم الضالة التي جعلتنا في هذا العالم مثالاً لسخرية القدر.

إنني أدعو جميع التونسيين مهما اختلفت آراؤهم وميولهم لا إلى تصديقي فيما أقول، ولكنني أدعوهم إلى التأمل معي في ذات الموضوع وخطره على مستقبل حياتنا، إذا بقينا مستسلمين للحوادث العابثة بنا، ناسبين ذلك إلى الأقدار التي لا تغالب، تائهين في صحراء الماضي، جاحدين فضل الجديد من العلم والفكر زاهدين في العمل الذي يشرفنا...

وقبل أن أختم القول أراني مدفوعاً بقوة غريبة إلى أن أحيي [...] آمالي في نهضة المرأة والشعب التونسي والشرق عموماً. وإذا كنت أراها اليوم بعيدة في النظر، فإني أراها قريبة في اتحاد الألم والشعور والفكر، وماثلة في العلم والتربية والتضحية في سبيلهما. ذلك هو سر خلاصنا من آلام الموت وانبثاق فجر الحرية الصادق.


* مقطع من خاتمة كتاب "امرأتنا في الشريعة والمجتمع" (1930)

المساهمون