مالك بنسماعيل: "حتى لو كان الطرح سياسيًا أحكيه كإثارة"

08 مايو 2019
مالك بنسماعيل: الأسطورة قاعدتي في اختيار مواضيعي (فيسبوك)
+ الخط -

عادةً، حين تحضر لمسة الفردانية والحميمية في الأفلام الوثائقية، يغيب عنها الطّرح السّياسي والاجتماعي. العكس صحيح أيضًا. في أفلام المخرج الجزائري مالك بنسماعيل، يحضر هذان البعدان معًا، فيُمنح المُشاهد صورة صادقة وغير مُهادنة عن المجتمع الجزائري، في فترة معيّنة.

في "الصّين لا زالت بعيدة" (2008)، يذهب إلى قرية في "الأوراس"، تُعدّ مهد الثورة الجزائرية، ليرصد ـ عبر قصص شخصيات صادقة ومؤثّرة ـ جوانب أساسية من ميثولوجيا الإنسان الجزائري ومخياله وتمثّلاته التاريخية، مشتغلاً على ما يسمّيه "طبقات" المعنى. يجسّ نبض المؤسّسة التعليمية، وثقل ماضي الاستعمار، ومأساة ركود السياحة؛ ويتوغّل في المؤسّسة الاستشفائية النفسانية ("اغترابات"، 2004)، وحملة بن فليس للرئاسيات ("اللّعبة الكبرى"، 2005)، ودهاليز السلطة، بانغماسه في أجواء تحرير الجريدة المستقلّة "الوطن" ("سلطة مضادّة"، 2015)، وترسّبات التاريخ الجزائري، في فيلمه الأخير "معركة الجزائر: فيلم في التاريخ" (2017).

في حواره مع "العربي الجديد"، تحدّث بنسماعيل عن جوانب أساسية من رؤيته الفنّية للوثائقي، وخصوصية ممارسته في منطقتنا، وتفاصيل مهمّة عن أسلوب اشتغاله.

(*) بدأتَ كمخرج سينمائي هاوٍ. أودّ أن تخبرني عن ظروف هذه البداية.
ـ كنتُ في قسنطينة، في "دار الشباب". كنا نقوم بأنشطة متعدّدة، بعضها رياضيّ كالـ"جودو". عندما كان عمري 12 عامًا، جذبتني الصورة. حينها، كانت للجزائر علاقة جيدة بألمانيا الشرقية سابقًا، التي كانت تُرسل صناديق كاملة من "سوبر 8"، كاميرات وأفلامًا وآلات مونتاج وغيرها. ذات يوم، وكنتُ قد بلغت 14 عامًا، قال المدير لي: "تلقينا أغراضًا من الجمهورية الألمانية. بما أنك تحبّ التقاط الصُوَر، أنظر ماذا يُمكنك أن تفعل بفضل هذه الصناديق". منذ ذلك الحين، بدأتُ المطالعة، وأصبحت مهتمًّا بكاميرا "سوبر 8"، وفيلم "كوداك". عندما أصبحت طالبًا في المدرسة الثانوية، أمضيتُ أيامًا كاملةً في قراءة التعليمات باللغة الإنكليزية، وبدأت صناعة الأفلام. بعد ذلك، كانت لدينا مهرجانات هواة معروفة في الجزائر، أرسلت أفلامي إليها، تمّ اختيارها.

هكذا أنشأنا مجموعة من صانعي الأفلام الهواة، أخرجوا أعمالاً رائعة حينها، مُفعمة بالتجريب، وبقصص مع أطفال، وأخرى ذات رمزية صادقة عن البلد برمّته. أحتفظ بذكرى جميلة للغاية عن تلك الفترة. كانت مزيجًا من التمرين على جمالية الـ"سوبر 8"، والـ"سينفيليا" بفضل "السينماتيك الجزائرية"، التي كنتُ أشاهد فيها أفلام عظماء، وأشارك في النقاشات.

هذا كلّه عزّز فيّ رغبة صناعة السينما. كان الأمر مُساعدًا على التدرّب فعليًا، وتجربة الأشياء فنيًا. حتى على مستوى الحكي، ليست الأمور هي نفسها مع الـ"سوبر 8". مع خامة الفيلم، عليك التفكير بعناية في المَشَاهد قبل تصويرها.

(*) وكيف جاء اختيارك الفيلم الوثائقي؟
ـ في الحقيقة، مثل المخرجين الجزائريين جميعهم، عند اقترابي من السينما، أردتُ إخراج أفلام روائية. تلقّيت تكوينًا في باريس، وبعدها أمضيت عامًا في لينينغراد، سانت بيترسبيرغ حاليًا، زمن الـ"بيريسترويكا". حينها، ظهرت في الجزائر أوّل حركة شبابية (أكتوبر/ تشرين الأول 1988 ـ المحرّر) ضد ديكتاتورية الحزب الوحيد. حينها أيضًا، تحدّثت كثيرًا مع مخرجين روس، خصوصًا ألكسندر سوكوروف، عن السينما الروائية، بينما سوكوروف متأثّر جدًا بالوثائقيّ، فسألني: كيف يُعقَل أن الجزائر لا تصنع أفلامًا وثائقية يُمكننا مُشاهدتها؟ أخبرته أن الوثائقي نوعٌ من الدعاية في الجزائر. إنْ كنتَ تتذكّر، في عهد هواري بومدين وبعده، كانت هناك فقط أفلام عن الثورة الزراعية، يُعلّق فيها بلغة عربية متضخّمة.

يومها، لم يكن هناك فيلم وثائقي حسّاس، مع عاطفة قوية، فكان لا بُدّ من إنجازه. هذه المناقشة فتحت عينيّ حقًا. كان واضحًا أننا ذاهبون إلى عقدٍ حاسم، إذْ بدأ البلد يتحرّك، وكان الوقت مناسبًا لبدء التسجيل. كانت معركة التحرير حربًا من دون صُوَر. فرنسا صوّرت وأخرجت أفلامًا وفق نظرة استعمارية. لكن الجزائر لم تُصوِّر الحرب، لأنه لم يكن لديها صانعو أفلام حينها.

ثم ظهرت أفلام روائية جزائرية عن الثورة التي نعرفها: "سجلات سنوات الجمر" (1975)، "ريح الأوراس" (1967)... إلخ. أما الوثائقيّات فقليلة جدًا، باستثناء أفلام عزالدين مدور.

هذه الفترة غير موثّقة. هناك فترة بومدين، التي لم تُوّثّق بصدق. لا بدّ من مخرج يُصوِّر واقعنا ويوثّقه. الواقع الذي يسمح للجزائري برؤية صورته وجهًا لوجه، ومعرفة إخفاقاته وصفاته وعواطفه وروح الدعابة التي تميّزه. لا مفرّ من تصوير أنفسنا. إذا لم نصوِّر أنفسنا، فلن نخلق خيالًا. أعتقد أن الحضارات العظيمة والبلدان الكبرى التي تصنع سينما لديها فضاء وثائقي: الهند والولايات المتحدة الأميركية وإيطاليا، مثلاً. لكلّ منها مدرسة وثائقية عريقة. الأمر متروك لنا لإنشاء أرشيف منطقتنا وحفظه. أرشيف الغد. كيف تعمل المدرسة؟ كيف تسير أمور المستشفى؟ ماذا عن البطالة؟

(*) هذا ما يفعله فريدريك ويزيمان أيضًا.
ـ بالضبط. لكن ويزيمان يحبس نفسه في مؤسّسة ولا يخرج منها. أنا أفعل العكس. أحوم حول المؤسّسات، ثم أعود إليها. هذه رحلات ذهاب ـ إياب. يخرج الأطفال من المدرسة ويذهبون إلى المنزل. يأتي المرضى إلى المستشفى ويخرجون منه. أشتغل على أساس أن هناك حياة كاملة في كلّ مؤسّسة. كما أني أنطلق من مبدأ وجوب مساءلة كلّ مؤسّسة وفقًا لروح المرحلة. مثلاً: بدأت مشواري بأفلام ترتكز على السياسة، بسبب الفترة التي كنّا نمرّ فيها حينها. عندما تمكّنت من إدخال كاميرا إلى مؤسّسة للطبّ النفسي، رغم صعوبة المهمة، اغتنمتُ الفرصة. الشيء نفسه عند تمكّني من تصوير قيادة حملة بن فليس.

أعتقد أن الوثائقي مقياس للديمقراطية أكثر من الروائي. يجب ألا نصنع أفلامًا فقط لعرضها. ينبغي أن تعتاد المؤسّسات، ويعتاد الجنرالات والوزراء والمديرون التنفيذيون على الكاميرا. هذه أيضًا طريقة لتعزيز الديمقراطية. اليوم، تدخل الكاميرا في كل مكان تدريجيًا. هذا مستحيل منذ أعوام ماضية. الأشياء تتغيّر، ويبدأ الناس اعتياد الصورة.

(*) أحد الجوانب المهمة في عملك يعتمد على التوفيق بين الحميميّ وطروحاتك عن المجتمع الجزائري. هذا غير شائع في الأفلام الوثائقية، فغالبًا عندما يحضر أحد الجانبين يُفتَقد الآخر.
ـ هذا صحيح. أعتقد أن عليك في الوثائقي العثور على فكرة مناسبة للتطرّق إلى موضوعٍ عبر الشخصيات. هذه الأخيرة تقدّم القصّة الكبيرة. كيفية تصوير القصة الصغيرة لسرد القصة الكبيرة، دائمًا. لماذا؟ لأن الجزائريين لم يدلوا بشهاداتهم أبدًا، بينما هم راغبون فعلاً في ذلك. على عكس أفلام وايزيمان، أحبّ تلك التي توجد فيها طبقات معنى. بلداننا معقّدة للغاية. ماذا نفعل حيال فضاءات الدين والديمقراطية والسياسة؟ ماذا نفعل باللغات وتاريخ الاستعمار وهويتنا؟ هناك أشياء كثيرة لم نحكها بعد. أنا لا أقول إنّه يتعيّن علينا تحميل أفلامنا أكثر مما تتحمّل. لكن، علينا دائمًا استدعاء هذه القصص. أنت لا تجد في أفلامي أطروحة كبرى، بل أشياء صغيرة.

هذا يشبه إلى حد كبير اللوحة الانطباعية، أي لمسات صغيرة، وعندما ترجع إلى الخلف ترى الصورة كاملة. عندما تكون في الداخل، ترى شخصيات صغيرة وحميمية، وعندما تعود، تدرك أني أحاول تقديم رؤية عن هذه الجزائر في زمن معيّن. مثلاً، يُعطي "الصين لا تزال بعيدة" صورة عن فترتنا، ذاكرةً وأرشيفًا. حين تبحث في أفلامي، يمكنك أن ترى ما إذا تقدّمنا إلى الأمام، أو تراجعنا إلى الخلف. عند مشاهدة الفيلم، يمكنك أن تقول لنفسك: "الجزائريون لا يزالون عالقين في القضيّة كذا. حقّقوا تطوّرًا إزاء قضيّة المرأة، لكنهم لا يزالون عالقين في الحرب، ولم يخرجوا بعد من الدين".

هكذا تتيح الأفلام الوثائقية قياس صحّة المجتمع. لذا، أحبّ العمل على طبقات المعنى، بسبر حميمية الشخصيات أحيانًا كثيرة. ما يعجبني هو تصوير الناس، حتّى أعدائي. أنجزت فيلمًا عن العشرية السوداء، صوّرت فيه الإسلاميين. أنتَ تعرف أن شخصًا ما ذبح أبرياء، فكيف تصوّره؟ كيف تصوّر عدوّك؟ في هذه اللحظة، يجب أن تكون في منطقه الخاص كي يفهم الجمهور الجزائري منطق الآخر. سهل جدًا أن تكون قاضيًا، وتُهين أعداءك. في هذه الأيام، يعرض جزائريون عديدون على "فيسبوك" مقتطفات من أفلامي، ويعلّقون عليها: "انتبهوا لهذا أو ذاك. اسمعوا ما قيل في فيلم بنسماعيل. هذا منطقه في التسعينيات"، إلخ. هذا جيّد. لهذا، الأرشيف مهم للغاية. لكن عليك إنجاز فيلم بحساسية معينة، والاهتمام بالأحاسيس، لا أن تشيطن أعداءك.

(*) هذه إحدى صعوبات الأفلام الوثائقية: كيفية المزاوجة بين المسافة والبعد الأخلاقي.
ـ بالتأكيد. هذه هي المخاطر. عليك أن تكون أخلاقيًا وتتوخّى الحذر كي لا تتعجّل الآخر، وتحرص على تقديم منطقه كما هو.

(*) أخبرتني عن فيلمك "سلطة مضادة"، وكيف أنه عاد إلى الحياة اليوم في سياق الانتفاضة الشعبية في الجزائر.
ـ خضع الفيلم للرقابة عام 2015. لا تأشيرة لديّ لاستغلاله في الجزائر. قُدِّم مرة واحدة في افتتاح مهرجان في بجاية من دون سابق إنذار. منذ ذلك الحين، تمّ إيقافه. مع الحركة الشعبية القائمة الآن، وبما أن النظام أصبح يتّسم بشيء من الانتظار، استطاع شبّانٌ عرضه في دور ثقافية تعادل صالات سينمائية حكومية، من دون صدور ردّ فعل من المسؤولين. هذا كان مستحيلا قبل 6 أشهر. اليوم، طلب مني شباب من قسنطينة وعنابة الفيلم لعرضه. الشعب الجزائري يمتلك مواقع العرض مجدّدًا، وهذا مهم.

(*) يوضح هذا الفيلم مدى توقّع أفلامك المجتمع الجزائري. هذا مهمّ. أعتقد أنه سيكون مستحيلاً تصوير الفيلم نفسه اليوم في خضم الأحداث، لأنه سيكون مشوّهًا ومأخوذًا بالراهن.
ـ اليوم لن نكون في الفيلم الوثائقي، لأن هذا الأخير هو الذي ينبري لما أسميه ما قبل وما بعد. اللحظة نفسها هي الصحافة والأخبار. لهذا السبب، يسألني كثيرون اليوم: "هل ستنجز شيئًاً ما؟"، فأجيبهم: "أنا أنتظر. هناك صُوَر، ولا أحتاج إلى فعل أي شيء". يجب أن ندع الناس يصنعون حدثهم، ونترك الأمور تتحرّك إلى الأمام. بعد ذلك، نفكر في المصبّ أو المنبع، كما في "سلطة مضادة" و"اللعبة الكبرى"، وهو عن حملة بن فليس، خصم بوتفليقة في رئاسيات 2004. كانت سابقة في منطقتنا. ذهبت إلى رئيس الحملة سلاّل، الذي أصبح لاحقًا رئيسًا للوزراء. أخبرته أني أرغب في تصوير اثنين من أهم المرشحين للرئاسة، بوتفليقة وبن فليس. أخبرني أنه سيلتقي الرئيس ويردّ علي. والردّ كما توقعت: "لا يمكننا ذلك. لكن يمكننا، إذا أردت، أن نمنحك مقتطفات من حملة الرئيس". أجبته: "لن أصوِّر فيلم بروباغندا".

لذا، ذهبت إلى بن فليس: "أردتُ صنع فيلم عن الحملة، لكن الرئيس رفض. ماذا تقول؟". تردّد قليلاً. لكن، بما أني أعرفه لأنه كان وكيلاً عامًا في قسنطينة ويعرف أبي، أبدى موافقة مبدئية. طلبت أن يُسمَح لي بدخول مكتبه ومرافقته في سيارته. أحضرت له فيلم ريمون دوباردون عن جيسكار ديستان ("1974، لعبة الحملة"، المُنجز عام 1974، والممنوع من العرض لغاية عام 2002 ـ المحرّر). قلت له إنه مهم للغاية، وإنه سيكون جيّدًا له أن يتّخذ عبره موطئًا له في تاريخ الجزائر، وإني أحتاج إليه، ولكني أعتقد أنه يحتاج إليّ أيضًا. شاهد الفيلم، ومنحني ضوءًا أخضر. رغم ذلك، واجهت صعوبات كثيرة أثناء التصوير. تدخّل الحرّاس الشخصيون كثيرًا، وأغلقت "جبهة التحرير الوطني" الباب في وجهي، لأن نفوذها أكبر من بن فليس. مع هذا، استطعت تحقيق الفيلم، الذي يُظهر عدم وجود ديمقراطية في الجزائر. يحاولون إيهامنا أن هناك أحزابًا وتعدّدًا، لكن في الواقع يتمّ طبخ كلّ شيء وفقًا للعبة كبرى.

تمّ حظر الفيلم في الجزائر وفرنسا أيضًا، المُشاركة في إنتاجه. لم تعرضه القناتان اللتان موّلتا إنتاجه إلى اليوم.

(*) لماذا؟
ـ لأني أظهرت، في نهاية الفيلم، عملية التصويت. يوم كامل أمضيته في مركز اقتراع في الجزائر العاصمة، ولم يكن أحدٌ فيه. المكاتب فارغة. صوّرتها بوجود عملاء بوتفليقة فقط، إذْ غاب ممثّلو المعارضة المنصوص على حضورهم في القانون. في لحظة معينة، يأتي مدير حملة بن فليس متسائلاً: "أين ممثلونا؟"، فيجيبه أحد رجال بوتفليقة وهو ينظر إلى الكاميرا مرتابًا: "غادروا لتناول الغداء". هل غادروا جميعًا لتناول الغداء في الوقت نفسه؟ في الواقع، "اشتروهم"، وطلبوا منهم المغادرة ليتمكنوا من حشو صناديق الاقتراع. ليلاً، ظهرت النسبة المعتادة المقتربة من 90 في المائة لصالح بوتفليقة. هذا موجود في الفيلم، الذي أظهر أيضًا نزول جاك شيراك من الطائرة لتهنئة بوتفليقة قبل إعلان النتائج الرسمية، ونسمعه يقول إنه سعيد بفوزه. ما إنّ شاهد مسؤولو القنوات الفرنسية هذه النهاية، حتى قالوا: "لا. لن نعرضه".

لذا، عندما أتحدث عن الرقابة في فرنسا، أقول: "نعم، أنا أتعرّض للرقابة في الجزائر. نحن بلد لا يزال أمامه طريق طويلة. لكنكم في فرنسا، بلد حقوق الإنسان والديمقراطية منذ القرن الـ19، لديكم مشكلات في هذا المجال، عندما يتعلق الأمر بالروابط السياسية التي لا تريدون تقويضها مع الجزائر". لم يجد "سلطة مضادة" أيضًا قناة تلفزيونية فرنسية واحدة لعرضه، لغاية اليوم.

(*) وحدها "آرتي" برمجته، لكن ألغيّ البث في اللحظة الأخيرة، لعدم التأثير في مصير الانتخابات الجارية، كما قالوا.
ـ هذا ما حصل.

(*) إنه أمر مضحك، فهدف الفيلم الوثائقي هو بالضبط أن يؤثّر.
ـ في الواقع، يقولون إنهم لا يريدون التدخل، وإنهم مستقلّون والجزائر مستقلّة، مبدئيًا. هل أنتم مستعمرون حتى تخافوا من التدخّل؟ العمل في هذه الظروف ليس سهلاً. يجب أن نتعامل مع الصعوبات كلّها التي نواجهها في الجزائر، وصعوبات التمويل الدولي في الوقت نفسه.

(*) اختيار "معركة الجزائر" موضوعًا لفيلمك الأخير أمر دال للغاية. يعني أنك تختار موضوعات تحظى بالاهتمام من دون الوقوع في الاستفزاز. كيف تحقّق هذا؟
ـ هذا صعب. الأسطورة قاعدتي في اختيار مواضيعي. في طفولتنا، تعرّضنا للكذب. في المدرسة، لم يُخبرنا أحدٌ أشياء عن تاريخنا، وآباؤنا لم يقولوا كلّ شيء. لذا، أحاول تصوير أفلام عن المؤسّسات والأساطير. بعد التطرّق للمدرسة ومستشفى الأمراض النفسية وحملة بن فليس وأسرار السلطة واغتيال بوضياف وغيرها، قلتُ لنفسي: "جيد. والثقافة في هذا كلّه؟ والسينما؟ ماذا لو أنجزتُ فيلمًا عن أسطورة ثقافية؟ ما الذي غذّى شبابنا؟" إنه فيلم "معركة الجزائر". كنتُ أشاهده مع إخواني في المدرسة والبيت مرّتين سنويًا، في الأول من نوفمبر/ تشرين الثاني والخامس من يوليو/ تموز. نحفظ حواراته عن ظهر قلب. أطفالاً، كنا نُقلّد المَشاهد في المدرسة: أنت تؤدّي دور المظليّ، وأنا ألعب دور الجلاّد، والآخر قائد في "جبهة التحرير الوطني". لعبنا هكذا أعوامًا عديدة.

عادت إلي ذكريات هذه الفترة عندما كنت أكتب. قلت لنفسي سأحكي تاريخ الجزائر، الممتد من السياسة وحرب التحرير إلى كيفية استعمال الفيلم من طرف الحركة الإمبريالية، لمعرفة كيفية غزو بغداد وأفغانستان. هذا فيلم ذو صلة وثيقة بحاضرنا. أشتغل أيضًا على "المستملحة" وحسّ السخرية لتجنّب الاستفزاز. حكاية النّادرة التي تأتي لإنقاذ الجميع. تسمح لي النّادرة بالنظر إلى الأشياء من زاوية معينة، وإلقاء نظرة من زاوية الحياة، ثمّ تطويق القضايا السياسية الكبرى، والانتقال إلى موضوع أصعب، ثم العودة إلى النّادرة، وهكذا. أفعل ذلك ذهابًا وإيابًا، حتى لا يشعر المُشاهد بثقل الطرح. حتى لو كان الطرح سياسيًا، فأنا أحكيه كفيلم إثارة، كتحقيق بوليسي.
المساهمون