09 نوفمبر 2024
ماكرون يكرّر سابقة أردوغان
شهدت تركيا في عام 2002 انتخابات فريدة، فقد صعد حزب العدالة والتنمية الذي تأسس قبل عام من ذلك التاريخ، ليحتل نحو ثلثي عدد مقاعد البرلمان. وكان لنجم رئيس بلدية إسطنبول، رجب طيب أردوغان الصاعد (48 عاماً آنذاك) إلى جانب عبدالله غول، فضل في الوصول إلى تلك النتيجة المبهرة. على أثر ذلك، اختفى زعماء أتراك، مثل تانسون شيلر ومسعود يلماظ وبولنت أجاويد عن الساحة، واعتزلوا العمل السياسي.
التذكير بذلك الحدث غير المنسي بعد، تمليه التطورات في بلد أوروبي/ متوسطي كبير هو فرنسا. الوزير المستقيل من الحكومة الاشتراكية مانويل ماكرون (39 عاماً) يفوز برئاسة الجمهورية، متغلبا على اليمين واليسار من حوله. وبعد شهر تجري الانتخابات البرلمانية، فيتصدر حزبه الناشئ قبل عام، الجمهورية إلى الأمام، النتائج في الدورة الأولى، محتلا ثلاثة أرباع مقاعد الجمعية الوطنية. بما يشير إلى أن النتائج النهائية في الدورة الثانية التي تجري غدا الأحد (18 يونيو/ حزيران) لن تغيّر كثيرا في النتائج.
إنها تداعيات زلزال الانتخابات الرئاسية، تداعيات بحجم زلزال سياسي جديد، ليس هناك ما هو أقرب شبها له من الزلزال السياسي التركي قبل 15 عاما، والذي مفاعيله مستمرة في أيام الناس هذه. خرج ماكرون بحزبٍ جديدٍ هو أقرب إلى ما بعد الحزبية يبشر بالأوربة والعولمة وقيم الجمهورية "التنويرية"، مع مضمونٍ سياسيٍّ لا يبتعد عن تيارات الوسط والليبرالية، وبغير حمولة أيديولوجية تذكر، وإن كانت ثاويةً في محدّدات الوجهة السياسية والاقتصادية. لكن مع أقل قدر من الدعائية وادّعاء احتكار الصواب السياسي والإجابة "عن كل شيء" من تحديات الواقع. فيما أفاد أردوغان من عدم أخذ هوية المجتمع المسلم في الاعتبار في أداء النظام العلماني، ومن استشراء الفساد والصراعات على السلطة في بلاد الأناضول، فخرج بتوليفة حزبية ذات جذور إسلامية، تحت سقف الدستور العلماني.
ويستفيد ماكرون من تعب الناخب الفرنسي من تعاقب اليسار (الاشتراكي) واليمين (الديغولي) من التعاقب على الحكم نصف قرن، من دون أن يلحظ هذا الناخب فوارق نوعية ملموسة
بينهما، مع ملاحظته أن الزعماء يتقدمون في السن، ولا يخطر ببال معظمهم التقاعد، أو إفساح المجال للشباب. وقد فاز حزب الرجل بأكثر مما يتوقع، إلى درجةٍ خشي معها كثيرون أن تختفي المعارضة من البرلمان، ومن الحياة العامة، وذلك للضمور الذي لحق بحجمها التمثيلي، ما يهزّ أركان الحياة الديمقراطية. واللافت أن هذا الفوز لحزب "الجمهورية إلى الأمام" اقترن بأدنى نسبةٍ من المقترعين. وقد رد بعضهم ذلك إلى أن الجمهور استنزف انتخابيا بعد التمهيدات الانتخابية داخل الأحزاب استعدادا للجولة الرئاسية، ثم مع إجراء الانتخابات الرئاسية، والتي تلتها بعد شهر الانتخابات التشريعية. ويبدو أن الممتنعين عن التصويت الذين فاقوا نصف من يحقّ لهم الاقتراع قد سلموا بهذه النتيجة مسبقا التي كشفت عنها انتخابات الرئاسة، فأرادوا إعطاء ماكرون فرصته كاملةً، أو حظه السعيد كاملا، ليرث كامل الشريحة السياسية التي ظلت متسيدةً مع تغيّر في بعض الوجوه نصف قرن.
والمغزى البسيط والجوهري للنموذجين، التركي والفرنسي، أن شهوة التغيير الجارفة يمكن لها أن تتحقق، إذا نضجت ظروفها الموضوعية، وإذا كان هناك من يلتقط نبض الأزمة، وكل ذلك ضمن الآليات الديمقراطية المرعية، دونما حاجة إلى ثورةٍ تزلزل الأركان، أو انقلابٍ يضع عاليها أسفلها.
وإذا كان هناك من لاحظ اختفاء الاشتراكيين في الحياة البرلمانية (علي أنوزلا في "العربي الجديد" عدد الأربعاء 14 يونيو/ حزيران 2017)، فثمّة مختفٍ آخر، وإن كان أقل شأنا هو اليمين الشعبوي المتطرّف، ممثلا بحزب الجبهة الوطنية الفرنسية، بزعامة مارين لوبان. النتيجة التي بدت واعدةً في الدورة الأولى للانتخابات الرئاسية بحصولها على نحو 34%، تبين أنها مجرد وعد محكوم بظرف آني. فها هو الحزب العتيد يتراجع كي يحصل على عدد أصابع اليد الواحدة من المقاعد. وبذلك، تقهقر الموقع الذي تسنمه الحزب أوروبيا، كطليعة لأحزاب اليمين المتطرّف. وذلك بعد تجربةٍ مماثلةٍ في هولندا، أطاحت طموحات هذا اليمين المتطرّف في
اختطاف تمثيل شريحةٍ عريضة من الجمهور. والذي لم يحرز سوى عشرين مقعدا من جملة 140 مقعدا، يتشكل منها البرلمان الهولندي. وتضع هذه النتيجة حدا للمخاوف من هيمنه اليمين المتطرّف على الحياة الأوروبية العامة، علما أن انتخابات فرنسا وهولندا، وبينهما الانتخابات البريطانية، قد جرت في أجواء تعرّضت فيها عواصم ومدن أوروبية لهجمات إرهابية، نفذها متطرّفون إسلاميون. ومغزى ذلك أن اليمين المتطرّف لم ينجح في استثمار هذه الهجمات على نحوٍ يمكّنه من اللعب على وتر الإسلاموفوبيا والعداء للمهاجرين. ففي بريطانيا، تقدم حزب العمال في الانتخابات المبكرة أخيرا بـ 29 مقعدا ليحتل261 مقعدا، ويعرف عن زعيم الحزب، جيرمي كوربين، نزعته الحوارية والتسامحية بين الأديان والثقافات والحضارات.. وفي الولايات المتحدة، يواجه الرئيس دونالد ترامب القضاء الذي ينكر عليه دستورية قراراته المتعلقة بحظر سفر أبناء سبعة بلدان إلى أميركا. وتتطلع الأنظار الآن إلى ألمانيا، حيث تجهر المستشارة أنجيلا ميركل بأنها ستخوض الانتخابات لولاية رابعة من أجل الوقوف في وجه اليمين الشعبوي (حزب البديل لألمانيا) الذي حقق بعض التقدم في انتخابات مناطقية.
ولو شاء المرء العودة في هذا المعرض إلى تركيا، فإن التحذيرات التركية، على مدى الأشهر القليلة الماضية، من صعود اليمين المتطرّف في أوروبا، قد شابتها مبالغاتٌ كبيرةٌ كما تدل على ذلك التطورات الانتخابية أخيرا. وكذلك الإيحاءات المتكرّرة بأن أوروبا أصبحت مسيحية أكثر في مواجهة الإسلام والمسلمين. والحال أن اليمين المتطرّف ما زال هامشيا. والمطلوب تعزيز هامشيته، بمد الجسور مع الحكومات الأوروبية المنتخبة، ومع الرأي العام هناك. وكذلك العمل معا لاستئصال شأفة الإرهاب، وذلك من أجل التخلص التام من هذه الآفة، ولحماية المدنيين وصون كرامة الإنسان في كل مكان.
التذكير بذلك الحدث غير المنسي بعد، تمليه التطورات في بلد أوروبي/ متوسطي كبير هو فرنسا. الوزير المستقيل من الحكومة الاشتراكية مانويل ماكرون (39 عاماً) يفوز برئاسة الجمهورية، متغلبا على اليمين واليسار من حوله. وبعد شهر تجري الانتخابات البرلمانية، فيتصدر حزبه الناشئ قبل عام، الجمهورية إلى الأمام، النتائج في الدورة الأولى، محتلا ثلاثة أرباع مقاعد الجمعية الوطنية. بما يشير إلى أن النتائج النهائية في الدورة الثانية التي تجري غدا الأحد (18 يونيو/ حزيران) لن تغيّر كثيرا في النتائج.
إنها تداعيات زلزال الانتخابات الرئاسية، تداعيات بحجم زلزال سياسي جديد، ليس هناك ما هو أقرب شبها له من الزلزال السياسي التركي قبل 15 عاما، والذي مفاعيله مستمرة في أيام الناس هذه. خرج ماكرون بحزبٍ جديدٍ هو أقرب إلى ما بعد الحزبية يبشر بالأوربة والعولمة وقيم الجمهورية "التنويرية"، مع مضمونٍ سياسيٍّ لا يبتعد عن تيارات الوسط والليبرالية، وبغير حمولة أيديولوجية تذكر، وإن كانت ثاويةً في محدّدات الوجهة السياسية والاقتصادية. لكن مع أقل قدر من الدعائية وادّعاء احتكار الصواب السياسي والإجابة "عن كل شيء" من تحديات الواقع. فيما أفاد أردوغان من عدم أخذ هوية المجتمع المسلم في الاعتبار في أداء النظام العلماني، ومن استشراء الفساد والصراعات على السلطة في بلاد الأناضول، فخرج بتوليفة حزبية ذات جذور إسلامية، تحت سقف الدستور العلماني.
ويستفيد ماكرون من تعب الناخب الفرنسي من تعاقب اليسار (الاشتراكي) واليمين (الديغولي) من التعاقب على الحكم نصف قرن، من دون أن يلحظ هذا الناخب فوارق نوعية ملموسة
والمغزى البسيط والجوهري للنموذجين، التركي والفرنسي، أن شهوة التغيير الجارفة يمكن لها أن تتحقق، إذا نضجت ظروفها الموضوعية، وإذا كان هناك من يلتقط نبض الأزمة، وكل ذلك ضمن الآليات الديمقراطية المرعية، دونما حاجة إلى ثورةٍ تزلزل الأركان، أو انقلابٍ يضع عاليها أسفلها.
وإذا كان هناك من لاحظ اختفاء الاشتراكيين في الحياة البرلمانية (علي أنوزلا في "العربي الجديد" عدد الأربعاء 14 يونيو/ حزيران 2017)، فثمّة مختفٍ آخر، وإن كان أقل شأنا هو اليمين الشعبوي المتطرّف، ممثلا بحزب الجبهة الوطنية الفرنسية، بزعامة مارين لوبان. النتيجة التي بدت واعدةً في الدورة الأولى للانتخابات الرئاسية بحصولها على نحو 34%، تبين أنها مجرد وعد محكوم بظرف آني. فها هو الحزب العتيد يتراجع كي يحصل على عدد أصابع اليد الواحدة من المقاعد. وبذلك، تقهقر الموقع الذي تسنمه الحزب أوروبيا، كطليعة لأحزاب اليمين المتطرّف. وذلك بعد تجربةٍ مماثلةٍ في هولندا، أطاحت طموحات هذا اليمين المتطرّف في
ولو شاء المرء العودة في هذا المعرض إلى تركيا، فإن التحذيرات التركية، على مدى الأشهر القليلة الماضية، من صعود اليمين المتطرّف في أوروبا، قد شابتها مبالغاتٌ كبيرةٌ كما تدل على ذلك التطورات الانتخابية أخيرا. وكذلك الإيحاءات المتكرّرة بأن أوروبا أصبحت مسيحية أكثر في مواجهة الإسلام والمسلمين. والحال أن اليمين المتطرّف ما زال هامشيا. والمطلوب تعزيز هامشيته، بمد الجسور مع الحكومات الأوروبية المنتخبة، ومع الرأي العام هناك. وكذلك العمل معا لاستئصال شأفة الإرهاب، وذلك من أجل التخلص التام من هذه الآفة، ولحماية المدنيين وصون كرامة الإنسان في كل مكان.