ماذا يشاهد الجزائريون؟

03 سبتمبر 2015
تحرر القطاع السمعي البصري من احتكار الدولة في 2012(Getty)
+ الخط -
كان على الجزائريين الانتظار إلى غاية سنة 2012 من أجل تحرير قطاع السمعي البصري من احتكار الدولة، وإرواء عطشهم في مشاهدة قنوات تلفزيونية خاصة، بعدما ظلوا لربع قرن كامل خاضعين لما يقدمه التلفزيون الرسمي من أخبار وبرامج جعلتهم يهربون لمتابعة القنوات الأجنبية.


بعد صدور قانون الإعلام الجديد الذي يفتح مجال السمعي البصري للاستثمار من قبل الخواص، تم إطلاق العديد من القنوات التلفزيونية الخاصة، لتمثل بذلك نهاية احتكار الدولة للقطاع من خلال التلفزيون الرسمي الذي يسميه البعض بـ"المحتمة" والتي يقصد بها القناة "المفروضة" في ظل عدم وجود بديل، بينما يعرف عند غالبية الشعب الجزائري بـ"اليتيمة"، وهو الاسم الذي اختاره الجزائريون للتعبير عن سخطهم من الخطاب الرسمي والوحيد الذي كان يقدمه التلفزيون في ظل غياب التعددية الإعلامية التي اقتصرت على الصحافة المكتوبة التي تم تحريرها سنة 1990، بينما لم يحرر المجال السمعي البصري إلا سنة 2012.

ويشمل التلفزيون الرسمي على خمس قنوات تلفزيونية حكومية، ظلت تحتكر القطاع منذ الاستقلال، وتتمثل في القناة الأولى، القناة "الثالثة"، قناة "الجزائر" الناطقة باللغة الفرنسية، القناة الناطقة بالأمازيغية وقناة "القرآن الكريم"، والتي يسميها الجزائريون من باب السخرية "أخوات اليتيمة".

وكان التلفزيون الجزائري الرسمي قد عرف خلال العشر سنوات الأخيرة الكثير من الانتقادات من قبل مختلف فئات المجتمع، بسبب نوعية البرامج المقدمة والتي توصف عادة بـ"الرديئة" إلى جانب الخطابات الرسمية التي يروج لها رغم أنها تتنافى بشكل تام مع الواقع الجزائري، ليصبح بذلك موضوع تهكم الشباب وتعليقاتهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ومن العبارات التي يتم تداولها بينهم "أحلم أن أعيش في الجزائر التي يتحدثون عنها في نشرة الثامنة"! ما يلخص حجم التناقض بين ما يقدمه التلفزيون الرسمي من صورة إعلامية إيجابية عن الجزائر والصورة الحقيقية التي يعيشها المواطن يوميا في الشارع.

ومع بداية بث القنوات الخاصة، وجد الجزائريون أخيرا متنفسا وطنيا جديدا، بعدما كانوا يهربون لمشاهدة لقنوات العربية والأجنبية، مرحبين بهذا الانفتاح الذي من شأنه أن ينقل صورة حقيقية عن أوضاعهم المزرية ومشاكلهم وأزماتهم دون إخضاعها لتجميل وترويج لنجاح الحكومة في إدارة المشاريع وحل أزمة البطالة والسكن وغيرها. وهي المواضيع التي تناولتها القنوات الخاصة، التي تزايد عددها بشكل ملحوظ في مدة قصيرة، منها الخاصة بالمرأة، الطفل، العامة والإخبارية، حيث عملت على التواصل مع الشارع الجزائري ومحاولة نقل إهتماماته وانشغالاته بإمكانات مادية وبشرية محدودة مكنتها، مع ذلك، من كسب جمهور معتبر من المشاهدين، الذين اكتشفوا سريعا أن القنوات التي كانوا يحلمون بها ليست في الحقيقة أفضل من التلفزيون الرسمي الذي سئموا منه.

جرعة زائدة من خيبة الأمل
وإذا كان للتلفزيون الرسمي طريقته في الترويج للسلطة الحاكمة، فللقنوات الخاصة أيضا طريقتها في الدعاية والترويج للسلطة مرة ولمصالح شخصية مرة أخرى، والأسوأ أن تمس بأخلاقيات المهنة وحق الخدمة العمومية التي تعد واحدة من واجباتها الأساسية من أجل كسب المزيد من المشاهدين، من خلال التركز على نقل صور ومشاهد مروعة من حوادث المرور وأعمال العنف والشغب وغيرها، إلى جانب المبالغة في تناول أخبار الفضائح وعدم احترام الحياة الخاصة للأفراد، ويصف أحد الشباب هذا الوضع: "كنا نتهكم على برامج اليتيمة المملة فأصبحنا نتفرج على مجازر الدم والأشلاء، لا يحترمون أحدا بمن في ذلك الموتى". ويضيف رضا في تعليق آخر: "أصبحوا يحاورون مجانين في الشارع، ويقدمونهم لنا على أنهم عقلاء متدمرون من الأوضاع الاجتماعية".

وهناك من طالبوا الدولة بالتدخل وتشديد الرقابة على ما يتم عرضه من قبل هذه القنوات. وهو ما حصل فعلا، حيث وجهت وزارة الاتصال منذ 4 أشهر تقريبا، رسالة واضحة للقنوات الخاصة، تدعوها لإفراغ شبكاتها البرامجية من مظاهر العنف والمشاهد المنافية لتقاليد وقيم المجتمع الجزائري، مهددة إياها بسحب الترخيص في حال استمرار الوضع على حاله وتمسكها بهذه التجاوزات.

وكانت القنوات الخاصة قد تناولت حتى الآن العديد من القضايا التي أثارت استياء الجزائريين، الذين وصفوها بالإعلام غير المهني واللا أخلاقي ونددوا بما سموه "إثارة الفتنة" داخل المجتمع الجزائري، على غرار ريبورتاج الطالبات الجامعيات، الذي بثته إحدى القنوات تصفهن فيه ببائعات هوى، ليتحول إلى قضية رأي عام، فخرجت الطالبات إلى الشارع ينددن بما سمّينه شتيمة وتشويهاً لسمعتهن، ورفعت المنظمات الطلابية والشباب شعارات تنادي بغلق القناة التي تسببت في إقدام العديد من الآباء على توقيف بناتهم عن الدراسة الجامعية.

لم تكن هذه القضية الإعلامية الوحيدة التي استنكرها الشارع الجزائري، حيث تعرضت إحدى الحصص التي تبث عبر قناة خاصة إلى هجوم شديد من قبل مختلف طبقات المجتمع الجزائري، بعد عرضها لحوار مع الكاتب الجزائري رشيد بجدرة الذي صرح من خلال القناة بأنه "ملحد" لا يؤمن بالله والإسلام ونبيه. وهو الأمر الذي اعتبرته العائلات الجزائرية خطا أحمر، وتهديدا واضحا لقيم الإيمان التي تحاول غرسها في أبنائها، مؤكدة أنها ستمنعهم من مشاهدة القناة التي نقلت التصريح دون احترام لخصوصية الجزائريين المعروفين بتمسكهم بالديانة الإسلامية ويعتبرون الإلحاد من التابوهات الكبرى.

وانتشرت ردود الفعل المنددة بهذا التصريح، عبر صفحات التواصل الاجتماعي والصحافة المكتوبة التي هاجمت مقدمة الحصة والقناة، متهمة إياها بمحاربة القيم الإسلامية في المجتمع. وقد شغلت القضية الرأي العام الجزائري لمدة طويلة. ويضاف إلى هذا استنكار الجزائريين لإقدام عدد من القنوات الخاصة على استضافة مدني مرزاق، الإرهابي التائب، الذي يعتبر من مهندسي العمليات الإرهابية خلال فترة التسعينيات قبل أن يسلّم نفسه في إطار المصالحة الوطنية.

في ظل الفوضى التي غرقت فيها القنوات الخاصة، بدأ التلفزيون العام يحاول الاقتراب أكثر من المجتمع في نشراته الإخبارية، فعلى خلاف الصورة المثالية التي يقدمها عادة، أصبح ينقل شكاوى واحتجاجات المواطنين، ويفتح لهم باب إبداء آرائهم بصفة موضوعية أكثر وبحرية أكبر مما كان عليه سابقا. ومن بين آخر المواضيع التي تناولها التلفزيون، تقرير حول واقع مصلحة التوليد بمستشفى ابن باديس بقسنطينة، الواقعة شرق الجزائر، والذي خلف صدمة كبيرة وسط المجتمع الجزائري، أين نقل التلفزيون صورة حية للمعاناة الكبيرة التي تعانيها الأمهات في غياب تام لأدنى الشروط الصحية. وهي المحاولات التي يبذلها التلفزيون العمومي لكسب اهتمام الجماهير نتيجة المنافسة التي يواجهها من قبل القنوات الخاصة التي وجدت، العديد منها، نفسها محاكمة من قبل المشاهدين باللامهنية وعدم احترام خصوصياتهم الثقافية والدينية.

(الجزئر)
المساهمون