مأزق لغة.. أي لغة؟

09 يناير 2016

عمل لكمال بلاطة

+ الخط -
كثيراً ما نسمع أن اللغة العربية تعاني من مأزق كبير على طول الوطن العربي، من مظاهره ضعف الطلاب في اللغة العربية في النحو والإملاء، بالإضافة إلى ضعفهم في الحديث والتعبير بالعربية الفصيحة، ولا أقول الفصحى، حيث هناك فارق بين هذين المستويين اللغويين. ويقال لنا أيضاً إن الخلط بين العربية واللغات الأجنبية، وبالذات الإنجليزية والفرنسية، مظهرٌ من مظاهر هذا المأزق الذي أنتج لساناً هجيناً يسمى "العربيزي" في المشرق، و"العرنسية" في المغرب.
في إسرائيل يتحدث بعضهم عن مآزق لغوية كثيرة، منها الخلط اللغوي بين العربية والعبرية في السلوك اللغوي عند فلسطينيي الداخل الذي أنتج لساناً على شاكلة العربيزي والعرنسية يسمى "العِبْرعربية".
مرد هذه المظاهر اللغوية عند شريحة كبيرة من الناس الشعور بـ "الانغلاب"، عند أهل الضاد التي لا يكف أصحابها عن التغني بها، في سياق ماضٍ تليد مضى، وكأنه لن يعود.
أصبح هذا التشخيص اللغوي من البديهيات المجتمعية، لكنه ليس مصب حديثي، على الرغم من أهميته، إنما موضوع اهتمامي هو اعتقاد بعضهم، ممن يولّون وجوههم أنجلوسكسونياً في المشرق العربي، أن هذا التوجه يعكس، عندهم، كفاية لغوية عالية في الإنجليزية، تفوق كفايتهم في اللغة العربية الفصيحة (أترك المتفرنسين جانباً حتى لا أطيل الحديث على القارئ). أرّقني هذا الاعتقاد، وما زال يؤرقني، كلما قابلت من يتنطع بعجمة إنجليزيةٍ، يتباهى بها من دون أن يعلم مدى عجمتها.
عملت قبل سنوات مستشارا لمشروع عربي ريادي، يهدف إلى دعم اللغة العربية في الفضاء التعليمي والعملي. اقترحت على راعي المشروع إجراء دراسة مسحية، تقوم بها مؤسسة ذات خبرة عالمياً، لرصد توجهات أبناء العربية نحو لغتهم. قبِل الراعي الفكرة، وموّل المسح مشكوراً. شملت الدراسة أربع دول عربية في عينة بلغ حجمها 750 فرداً، تم استجوابهم وجهاً لوجه في مجموعاتٍ متوازنة من حيث الجنس والعمر ومستوى التعليم والدخول وغير ذلك. طلَبَتْ المؤسسة الماسحة أن تقدم التقرير بالإنجليزية، لأنها لغة البحث عندها، مع أنها توجد فرعاً في دولة عربية أغدق الله المال عليها.
كنت أتوق للاطلاع على نتائج الاستطلاع الذي كلف مبالغ طائلة، لكني أُصبتُ بالخيبة العظيمة
، عندما وصل إلي التقرير. لم أفهمه جيداً، وأنا الذي قضيت معظم سنوات حياتي أعمل في جامعات بريطانية، آخرها كامبردج التي تستقطب ثلة من الطلبة المتميزين عالمياً، أشرَفْت على رسائل عدد منهم في دراسة الماجستير والدكتوراة، باللغة الإنجليزية بطبيعة الحال.
أخبرت راعي المشروع أني لا أستطيع أن أفك بعض طلاسم التقرير، جاءني الجواب أن مُعدّي التقرير لا يفهمون المشكلة. عندها طلبت اجتماعاً معهم بحضور ممثل الراعي، لبحث الأمر. بدأت الحديث معهم بلغة إنجليزيةٍ كالتي أستخدمها في إلقاء محاضراتي في كامبردج، لأبعث لهم بإشارة عن معرفتي بالإنجليزية. رأيت الوجوم على وجوههم. طلبت إيضاحاتٍ تعينني على فهم ما تعسر علي فهمه. جاءتني الإجابات بلغة إنجليزية ركيكة، تتراقص تراقص الطاووس الذي يعتد بنفسه، وهو لا يعرف أنه فقد جل ريشه الذي يزهو به. قلت وكرّرت إن ما كان عسيراً على الفهم عندي بقي عسيراً، على الرغم من جهدهم المشكور.
عندها، طلبت منهم التوضيح بالعربية التي اعتقد معدو التقرير العرب أنها لغتهم الأضعف، حيث أعلنوا عن ذلك منذ بداية اللقاء. حينها فهمت ما كان متعسّراً علي. قلت لهم: كيف تكون قدرتكم على التعبير في اللغة الأضعف أنجع من التعبير في لغتكم الأقوى؟ كيف يكون الأضعف قوياً والأقوى ضعيفاً؟ لماذا الاستهانة بقدراتكم "العربية"، ولماذا هذا التضخيم لقدراتكم "الإنجليزية"؟
عاينت ما يشبه هذه النازلة مراراً، في حياتي اليومية والعملية في مشرقنا العربي وخارجه. التقي بمن يستعرض عضلات لسانه الإنجليزي علي بدرايةٍ أو بدون دراية، فأصبح عندها "كامبردجيا" يثبت له أن العربية أفضل له لغةً نتخاطب بها، حتى لا يستعصي عليه فهم ما أقول له بلسانه الإنجليزي المؤطَّر وظيفياً، والذي إنْ تحدّث به، فغالباً ما يتحدث به مبتوراً عن الثقافة التي تحتضن هذا اللسان، هذه الثقافة التي تجعل من اللسان لغة؛ فكفاية اللسان شيء، وكفاية اللغة- الثقافة شيء آخر. الأولى أسهل تحصيلاً من الثانية بمرات ومرات.
قد يخطئ العربي في نحو وصرف لغته. هذه عثرات لسانٍ في العرف المجتمعي. ولكنه من النادر أن يخطئ في الكفاية الثقافية التي تحوّل لسانه إلى لغة. إن خُيّرتُ، فسأقترف خطايا النحو والصرف على أن أقترف خطايا "اللغة--الثقافة". خطايا النحو والصرف أدائية من الناحية المجتمعية، أما خطايا الثقافة اللغوية فهي من نوع آخر، قد يخرج الفرد عن "الملة اللغوية" ثقافياً، إن جاز لنا التعبير.
وعوْداً إلى مأزق اللغة الذي بدأت به حديثي: إن كانت اللغة العربية في مأزق، فإن مآزق اللغة الأجنبية، عند الأغلبية ممن يولون وجوههم شطرها في وطننا العربي، قد تكون أكثر فتكاً مما يتصورون في "منظومة" كفاياتهم اللغوية.
أقول لهؤلاء إن مأزقهم مأزق لغة، لا مأزق لغة عربية.
دلالات
7B47B907-288C-4B29-A14F-0D7E7F8935C9
ياسر سليمان

رئيس معهد الدوحة للدراسات العليا بالوكالة ومدير مركز الوليد للدراسات الإسلامية في كامبريدج، حاصل على وسام الامبراطورية البريطانية برتبة قائد لخدماته البحثية.