06 فبراير 2016
أنا من البلاد المنكوبة
يأخذني عملي إلى أقطار عربية مختلفة بصورة مكثفة. أسعد كثيراً بهذه الزيارات التي تتيح لي فرصة التعرف على بعض جوانب الحياة في تلك الأقطار وتطوراتها، كما تتيح لي فرصة الالتقاء بأصدقاء قدامى، والتعرف إلى أصدقاء جدد.
وكلما سنحت لي الفرصة في هذا الزيارات، أتجول على الأقدام في هذا البلد أو ذاك، أدخل المتاجر والمقاهي ومكتبات شراء الكتب والمطاعم الشعبية، فلست من عشاق مطاعم أو مقاهي "الخمس نجوم"، وإن أضطر لزيارتها أحيانا بصحبة أصدقاء يريدون "توجيبي"، كما يقول أهل بلاد الشام.
وفي حديثي مع من ألتقيهم أتلذذ بمتعة تغيير لهجتي المحكية باتجاه العربية الفصيحة، ماحياً منها قدر الإمكان صبغتها المحلية. وكالعادة المعتادة، يثير هذا فضول من أحادثهم ممن لا أعرف، فيأتي السؤال المعتاد في كل مرة "حضرتك من أي بلد؟". أجيب بسرعة البرق "أنا من الوطن العربي"، مع أن التجربة علمتني أن هذا الإجابة لا تسمن المتلقي، ولا تغنيه من جوع.
وفي العادة، يكون الجواب "كلنا عرب"، أو "كلنا من الوطن العربي"، أو "كلنا من العالم العربي". أشكر الله على هذه الإجابات، لكن السؤال يعود من جديد "من أي بلد أنت؟" وأكرّر الإجابة نفسها، فيأتي الرد على شكل انسحابٍ من الحديث، بتذمر لطيف في معظم، لا كل، الأحيان.
كنت مرة في مطار عمّان، وقابلت رجلاً فهمتُ، من لهجته وتصريحه، أنه من العراق. سألني، فأجبته، فضحك ثم استهزأ، وقال بعدها "في أي عصر تعيش أنت؟ أراك تتحدث في يومك بمنطق عصرٍ انقضى وولّى إلى غير رجعة. تذكّرني بجدي الذي مات منذ عقود طويلة. أفق على نفسك أيها الرجل!". تركني ومضى.
ومرّة التقيت وزيراً عربياً في جامعة كامبردج البريطانية التي أعمل فيها. سألني السؤال نفسه،
وأجبته الإجابة نفسها. وبعد أن أكد لي أنه عربي، أعلن عن جنسيته التي كنت أعرفها، طبعاً، بحكم منطق الزيارة، لينقضَّ علي بسؤال تهكميّ، لم أتوقعه: "هل أنت خجل من أصلك وموطنك؟". لسعتني هذه الإجابة بحدتها وقلة أدبها. أردت أن أجيب بكياسةٍ بريطانيةٍ، أصبحت عادة بعد طول معاشرة الإنجليز، وقبلهم الأسكتلنديين، لكني لم أستطع. قلت ما قلت، وغضب من غضب، والرزق على الله الذي وهبني ملكة بريطانيا التي عشت في حماها أزيَد مما عشت في أي بلد عربي، بما في ذلك بلد "موطن رأسي".
وأعطي الإجابة نفسها لأبناء هذا الموطن، لكنهم لا يكتفون، مع أنهم من أحوج العرب إلى تعزيز الإنتماء العروبي، خدمة لقضيتهم. وللاستمرار في التجربة، أصرح أحياناً أني من بلد واحد يجمعنا، فيأتي السؤال فوراً يطالب بمزيد من التخصيص: "من أي مكان؟" أرفض الإجابة، فيستمر السيناريو بشكله السابق. وإن استكنت وأجبت بشيء من التخصيص، أطالَبُ بتخصيص أكبر: من أي حارة، أو حي، أو عائلةٍ أنت؟".
ما تفسير هذا الإصرار على التفصيل القُطري، وتفصيل التفصيل داخل البلد الواحد؟ حب الاستطلاع، أم حب التنميط؟ هل إنْ كان الفرد نصاً، فمعلومة الأصل هي الشيفرة التنميطية التي يستخدمها المتلقي لقراءة هذا النص، بإسقاط إطار مسبق عليه؟ إن كنت مصرياً، فلا بد أنك ... (أضف ما شئت من الأفكار المسبقة). وإن كنت سورياً أو سعودياً أو لبنانياً أو ليبياً أو مغربياً أو يمنياً، فهناك تصنيف ومعان لك تسبقك. لذا، لا تحاول المراوغة! وإن كنت فلسطينياً بين فلسطينيين، فنصك له آلات تفكيك تضعك في خانة الفلاح أو المديني أو ابن الصحراء أو ابن هذه العائلة أو تلك. لا تهرب، ولا تتهرّب، فمعناك يسبقك. هذا قدرك، فلا تحاول التنصل منه.
في بعض الأحيان، أحياناً كثيرة أخيراً، أجيب عن السؤال نفسه بالقول "إني من البلاد المنكوبة." وسرعان ما يأتي الجواب على شكل سؤال "من أي بلد بالضبط؟"، لا أجيب، ولكني أطلب التخمين. "أنت من سورية" أجيب: "لا، غير صحيح." "أنت من العراق" أجيب: "لا، غير صحيح".
"أنت من اليمن، لكن شكلك لا يوحي بذلك"، "أنت من ليبيا، لكن لهجتك ليست ليبية"، أقول: "لا. الإجابات غير صحيحة." "من أي بلد أنت، إذن؟"، أتردّد قليلا، ثم أجيب: "من فلسطين، بلد النكبة". يلطم محدثي جبهته خجلاً ودهشة. دهشة لأن نكبة فلسطين لم تعد نكبة في المخيال الحاضر على ما يبدو، ويلي الاعتذار والحسرة على ما وصلنا إليه في مواطن العرب والعروبة. أقول لمحدثي: "أصبحنا كلنا فلسطينيين؟ منكوبين ومنسيين في آن واحد".
أعطيت الإجابة نفسها في مقهى لذوي الدخول غير المحدودة في رام الله، في زيارة غير بعيدة لفلسطين، وكانت النكبة الكبرى: "هل أنت من سورية؟". "لا". "أنت من العراق، إذن".
حسبي الله ونعم الوكيل.
وكلما سنحت لي الفرصة في هذا الزيارات، أتجول على الأقدام في هذا البلد أو ذاك، أدخل المتاجر والمقاهي ومكتبات شراء الكتب والمطاعم الشعبية، فلست من عشاق مطاعم أو مقاهي "الخمس نجوم"، وإن أضطر لزيارتها أحيانا بصحبة أصدقاء يريدون "توجيبي"، كما يقول أهل بلاد الشام.
وفي حديثي مع من ألتقيهم أتلذذ بمتعة تغيير لهجتي المحكية باتجاه العربية الفصيحة، ماحياً منها قدر الإمكان صبغتها المحلية. وكالعادة المعتادة، يثير هذا فضول من أحادثهم ممن لا أعرف، فيأتي السؤال المعتاد في كل مرة "حضرتك من أي بلد؟". أجيب بسرعة البرق "أنا من الوطن العربي"، مع أن التجربة علمتني أن هذا الإجابة لا تسمن المتلقي، ولا تغنيه من جوع.
وفي العادة، يكون الجواب "كلنا عرب"، أو "كلنا من الوطن العربي"، أو "كلنا من العالم العربي". أشكر الله على هذه الإجابات، لكن السؤال يعود من جديد "من أي بلد أنت؟" وأكرّر الإجابة نفسها، فيأتي الرد على شكل انسحابٍ من الحديث، بتذمر لطيف في معظم، لا كل، الأحيان.
كنت مرة في مطار عمّان، وقابلت رجلاً فهمتُ، من لهجته وتصريحه، أنه من العراق. سألني، فأجبته، فضحك ثم استهزأ، وقال بعدها "في أي عصر تعيش أنت؟ أراك تتحدث في يومك بمنطق عصرٍ انقضى وولّى إلى غير رجعة. تذكّرني بجدي الذي مات منذ عقود طويلة. أفق على نفسك أيها الرجل!". تركني ومضى.
ومرّة التقيت وزيراً عربياً في جامعة كامبردج البريطانية التي أعمل فيها. سألني السؤال نفسه،
وأعطي الإجابة نفسها لأبناء هذا الموطن، لكنهم لا يكتفون، مع أنهم من أحوج العرب إلى تعزيز الإنتماء العروبي، خدمة لقضيتهم. وللاستمرار في التجربة، أصرح أحياناً أني من بلد واحد يجمعنا، فيأتي السؤال فوراً يطالب بمزيد من التخصيص: "من أي مكان؟" أرفض الإجابة، فيستمر السيناريو بشكله السابق. وإن استكنت وأجبت بشيء من التخصيص، أطالَبُ بتخصيص أكبر: من أي حارة، أو حي، أو عائلةٍ أنت؟".
ما تفسير هذا الإصرار على التفصيل القُطري، وتفصيل التفصيل داخل البلد الواحد؟ حب الاستطلاع، أم حب التنميط؟ هل إنْ كان الفرد نصاً، فمعلومة الأصل هي الشيفرة التنميطية التي يستخدمها المتلقي لقراءة هذا النص، بإسقاط إطار مسبق عليه؟ إن كنت مصرياً، فلا بد أنك ... (أضف ما شئت من الأفكار المسبقة). وإن كنت سورياً أو سعودياً أو لبنانياً أو ليبياً أو مغربياً أو يمنياً، فهناك تصنيف ومعان لك تسبقك. لذا، لا تحاول المراوغة! وإن كنت فلسطينياً بين فلسطينيين، فنصك له آلات تفكيك تضعك في خانة الفلاح أو المديني أو ابن الصحراء أو ابن هذه العائلة أو تلك. لا تهرب، ولا تتهرّب، فمعناك يسبقك. هذا قدرك، فلا تحاول التنصل منه.
في بعض الأحيان، أحياناً كثيرة أخيراً، أجيب عن السؤال نفسه بالقول "إني من البلاد المنكوبة." وسرعان ما يأتي الجواب على شكل سؤال "من أي بلد بالضبط؟"، لا أجيب، ولكني أطلب التخمين. "أنت من سورية" أجيب: "لا، غير صحيح." "أنت من العراق" أجيب: "لا، غير صحيح".
"أنت من اليمن، لكن شكلك لا يوحي بذلك"، "أنت من ليبيا، لكن لهجتك ليست ليبية"، أقول: "لا. الإجابات غير صحيحة." "من أي بلد أنت، إذن؟"، أتردّد قليلا، ثم أجيب: "من فلسطين، بلد النكبة". يلطم محدثي جبهته خجلاً ودهشة. دهشة لأن نكبة فلسطين لم تعد نكبة في المخيال الحاضر على ما يبدو، ويلي الاعتذار والحسرة على ما وصلنا إليه في مواطن العرب والعروبة. أقول لمحدثي: "أصبحنا كلنا فلسطينيين؟ منكوبين ومنسيين في آن واحد".
أعطيت الإجابة نفسها في مقهى لذوي الدخول غير المحدودة في رام الله، في زيارة غير بعيدة لفلسطين، وكانت النكبة الكبرى: "هل أنت من سورية؟". "لا". "أنت من العراق، إذن".
حسبي الله ونعم الوكيل.