26 سبتمبر 2014
مأزق لذة الثورة
قبل أكثر من نيفٍ وثلاثين عاماً، كتب أوكتافيو باث، في مجلة الفكر الفرنسية، مقالة بعنوان "انحرافات اللغة"، وعلى الرغم من أنها كانت، في موضوعها العام، نقداً عميقاً وفلسفياً لمنطق الثورة عند التروتسكيين، إلا أنها بنيت، في بدايتها، على مفهوم "انحرافات اللغة" الذي رآه باث معادلاً لما سماه المرض الأدبي، وصنواً لما سماه المرض الأيديولوجي!
تحدث عن اللغات التي تصاب، باضطراد، بأوبئة مختلفة، فتتعفن وتفسد، سنوات طويلة، مفرداتها وجملها، وتتحول المفاهيم النقدية بين ذلك، محاولة انتشال اللغة من الوهدة التي سقطت فيها. ثم يمضي الكاتب، في نقده التشريحي، ليصل إلى فرضية تحول مهنة الناقد إلى مهنة تهريجية مضللة، إذ يتماهى، عندئذ مع مفهوم "لذة النص"، فلا يكاد يبصر أي معنى إلا من خلال ذلك. ويبدو أوكتافيو باث، وهو يغوص خلف العلاقة المشتبكة بين المرضين، الأدبي النقدي والأيديولوجي، قارئاً من خارج زمننا الحالي، لكل مفرداتنا ويومياتنا العربية المرهقة. فانحراف لغتنا يبصر في أفق أكثر ارتباطاً بالأبعاد المكملة للغة، والمتجلية في الفعل السياسي. لم نعد نستطيع أن نميز بدقة بين المبدئي والبراغماتي، ولا بين القومي والقطري والأممي.
وعلى الرغم من أننا امتلكنا، مع اندلاع ثورات الربيع العربي، فرصةً مثالية للفهم والتمييز، والتأسيس على شيءٍ صلب وجذري وأصيل، وعصي على الاقتلاع، فإننا لم نفعل ذلك، وركنت القوى السياسية المنتشية باللحظة الثورية إلى "لذة الثورة"، فلم تبصر أقدام العسكر، وهي تتسلل خلف خطوطها، وتستحوذ على بعضها، لتضرب به بعضها الآخر. ليست الأزمة، كما يروج بعضهم، في أن الفريق السياسي الثوري الإخواني كان أكثر أثرةً بالسلطة، واستطاع تسيير اللحظة الثورية ببراغماتية لصالح مبادئه، وليست الأزمة أن الفريق السياسي القومي الناصري دعم، ويدعم، انقلاب العسكر على تلك الثورة، ولحظاتها التي وحدت الجميع في ميدان التحرير.
الأزمة الحقيقية التي صنعت ذلك كله هي غياب أي تحليل سياسي فكري لما بعد لحظة الثورة، والسؤال الذي كان من الأولوية طرحه هو: كيف تأتّى للثورة أن تجمع الكل في لحظةٍ تحت مظلتها: الإخواني والسلفي والليبرالي والقومي واليساري و.. و...؟ وكيف لم يستغل ذلك الاجتماع لطرح السؤال الآخر، الوثيق الصلة بالأول: لماذا لم يحافظ الكل على لُحمتهم؟ وهل ثمة معوقات فكرية وإجرائية أصيلة منعت ذلك؟
ما يبدو، الآن، وكأنه العصر الزاهي لعودة القومية الناصرية عن طريق عسكري جديد، لا يجب أن يقرأ فقط بأنه انتصار لفريق القوميين، وبعض الليبراليين واليساريين، على الإخوان المسلمين، ورد الصاع صاعين لهم، جراء استئثارهم بالسلطة في مصر، ومحاولة ما سمي أخونة الدولة.
ما حدث ويحدث منذ وصول "الإخوان" إلى السلطة، وحتى اكتمال الانقلاب عليهم، بفوز الجنرال عبد الفتاح السيسي في الانتخابات الرئاسية، هو تجل عادي لفكرة أن الشعب العريض، غير المسيس غالباً، أسقط في هبته الثورية كل المفاهيم الأيديولوجية السابقة، والتي مرضت وشاخت، واعتراها ما يعتري اللغة من انحرافات، لكن السياسيين، بمختلف طوائفهم، لم يفهموا ذلك، أو لم يريدوا أن يفهموه، فاستغرق "الإخوان" في نشوة الانتصار عبر صناديق انتخابية، أبرزت تعلق غالبية المصوتين بهم، كإطار جديد للحكم، لكنهم في اللحظة التي حافظوا فيها على انحرافاتهم الأيديولوجية القديمة، وقرروا أنهم هم الشعب وصوته الأوحد، ثار العامة مرة أخرى، مدفوعين، هذه المرة، بدعايةٍ تبرز، بل وتضخم حجم تلك الانحرافات، وتقرنها بالشيطان الرجيم عند غالبية الشعب!
كان الحل الذي عرض على الشعب منحرفاً، هو الآخر، ومستغرقا في قدم انحرافاته، فأمام التهم التي صيغت، وفصلت على مشروع "الإخوان" بأنه مشروع ضد الدولة، أصبح مبرراً بالنسبة للقوميين استدعاء صورة الزعيم العسكري، القوي القادر على الحفاظ على وحدة الدولة.
لا يستطيع قوميون كثيرون، من ناحيةٍ تاريخيةٍ بحتة، أن يفعلوا سوى ما فعلوا، ذلك أن انحرافات فكرهم مؤسسة في الأصل على فكرة التمترس وراء ذلك العسكري الخالد، الضارب بقوة على كل ما عداهم. لذلك، كان من المنطقي أن يكونوا سنداً قوياً للجنرال السيسي! وكان من المبرر، استدعاءً لإرث تاريخي، أن يعتبروا أن قتل "الإخوان" بالذات إحياء لروح الدولة القومية القوية!
على كل حال، ثمة شيء إيجابي، ضمن تلك اللوحة القاتمة المتشظية والمنحرفة، هو أن الشعب نفسه الذي ثار مرتين يمكن له أن يثور مرة أخرى. وهنا، علينا طرح التساؤل: ما الظروف الضامنة في واقعنا، الآن، لإنضاج ثورة ثالثة مغيرة؟
لن نتحدث عن توقع رد فعلٍ، سيتراكم بعد ممارساتٍ للعسكر، وحده الله يعلم كم ستطول. سنترك ذلك التوقع الذي، وإن كان منطقياً، هو غير حتمي، وسنتحدث عن شيء يبدو أكثر حتمية وصلة بالتغيير. وعلينا أن نقول إنه لا يمكن الحديث، إذن، عن ثورة جديدة، من دون العودة إلى نقطة البدء الثورية، ورؤية أن الشعب، عندما قام بثورته، كان يفعلها على الاستبداد، لكنه كان يثور، أيضاً، على الأشكال والقوالب الأيديولوجية السابقة. وكان، بطبيعة الحال، يريد إبداعاً من القوى السياسية، في صهر وإذابة الفوارق بينها، وصولاً إلى مشروع وطني جامع.
تحدث عن اللغات التي تصاب، باضطراد، بأوبئة مختلفة، فتتعفن وتفسد، سنوات طويلة، مفرداتها وجملها، وتتحول المفاهيم النقدية بين ذلك، محاولة انتشال اللغة من الوهدة التي سقطت فيها. ثم يمضي الكاتب، في نقده التشريحي، ليصل إلى فرضية تحول مهنة الناقد إلى مهنة تهريجية مضللة، إذ يتماهى، عندئذ مع مفهوم "لذة النص"، فلا يكاد يبصر أي معنى إلا من خلال ذلك. ويبدو أوكتافيو باث، وهو يغوص خلف العلاقة المشتبكة بين المرضين، الأدبي النقدي والأيديولوجي، قارئاً من خارج زمننا الحالي، لكل مفرداتنا ويومياتنا العربية المرهقة. فانحراف لغتنا يبصر في أفق أكثر ارتباطاً بالأبعاد المكملة للغة، والمتجلية في الفعل السياسي. لم نعد نستطيع أن نميز بدقة بين المبدئي والبراغماتي، ولا بين القومي والقطري والأممي.
وعلى الرغم من أننا امتلكنا، مع اندلاع ثورات الربيع العربي، فرصةً مثالية للفهم والتمييز، والتأسيس على شيءٍ صلب وجذري وأصيل، وعصي على الاقتلاع، فإننا لم نفعل ذلك، وركنت القوى السياسية المنتشية باللحظة الثورية إلى "لذة الثورة"، فلم تبصر أقدام العسكر، وهي تتسلل خلف خطوطها، وتستحوذ على بعضها، لتضرب به بعضها الآخر. ليست الأزمة، كما يروج بعضهم، في أن الفريق السياسي الثوري الإخواني كان أكثر أثرةً بالسلطة، واستطاع تسيير اللحظة الثورية ببراغماتية لصالح مبادئه، وليست الأزمة أن الفريق السياسي القومي الناصري دعم، ويدعم، انقلاب العسكر على تلك الثورة، ولحظاتها التي وحدت الجميع في ميدان التحرير.
الأزمة الحقيقية التي صنعت ذلك كله هي غياب أي تحليل سياسي فكري لما بعد لحظة الثورة، والسؤال الذي كان من الأولوية طرحه هو: كيف تأتّى للثورة أن تجمع الكل في لحظةٍ تحت مظلتها: الإخواني والسلفي والليبرالي والقومي واليساري و.. و...؟ وكيف لم يستغل ذلك الاجتماع لطرح السؤال الآخر، الوثيق الصلة بالأول: لماذا لم يحافظ الكل على لُحمتهم؟ وهل ثمة معوقات فكرية وإجرائية أصيلة منعت ذلك؟
ما يبدو، الآن، وكأنه العصر الزاهي لعودة القومية الناصرية عن طريق عسكري جديد، لا يجب أن يقرأ فقط بأنه انتصار لفريق القوميين، وبعض الليبراليين واليساريين، على الإخوان المسلمين، ورد الصاع صاعين لهم، جراء استئثارهم بالسلطة في مصر، ومحاولة ما سمي أخونة الدولة.
ما حدث ويحدث منذ وصول "الإخوان" إلى السلطة، وحتى اكتمال الانقلاب عليهم، بفوز الجنرال عبد الفتاح السيسي في الانتخابات الرئاسية، هو تجل عادي لفكرة أن الشعب العريض، غير المسيس غالباً، أسقط في هبته الثورية كل المفاهيم الأيديولوجية السابقة، والتي مرضت وشاخت، واعتراها ما يعتري اللغة من انحرافات، لكن السياسيين، بمختلف طوائفهم، لم يفهموا ذلك، أو لم يريدوا أن يفهموه، فاستغرق "الإخوان" في نشوة الانتصار عبر صناديق انتخابية، أبرزت تعلق غالبية المصوتين بهم، كإطار جديد للحكم، لكنهم في اللحظة التي حافظوا فيها على انحرافاتهم الأيديولوجية القديمة، وقرروا أنهم هم الشعب وصوته الأوحد، ثار العامة مرة أخرى، مدفوعين، هذه المرة، بدعايةٍ تبرز، بل وتضخم حجم تلك الانحرافات، وتقرنها بالشيطان الرجيم عند غالبية الشعب!
كان الحل الذي عرض على الشعب منحرفاً، هو الآخر، ومستغرقا في قدم انحرافاته، فأمام التهم التي صيغت، وفصلت على مشروع "الإخوان" بأنه مشروع ضد الدولة، أصبح مبرراً بالنسبة للقوميين استدعاء صورة الزعيم العسكري، القوي القادر على الحفاظ على وحدة الدولة.
لا يستطيع قوميون كثيرون، من ناحيةٍ تاريخيةٍ بحتة، أن يفعلوا سوى ما فعلوا، ذلك أن انحرافات فكرهم مؤسسة في الأصل على فكرة التمترس وراء ذلك العسكري الخالد، الضارب بقوة على كل ما عداهم. لذلك، كان من المنطقي أن يكونوا سنداً قوياً للجنرال السيسي! وكان من المبرر، استدعاءً لإرث تاريخي، أن يعتبروا أن قتل "الإخوان" بالذات إحياء لروح الدولة القومية القوية!
على كل حال، ثمة شيء إيجابي، ضمن تلك اللوحة القاتمة المتشظية والمنحرفة، هو أن الشعب نفسه الذي ثار مرتين يمكن له أن يثور مرة أخرى. وهنا، علينا طرح التساؤل: ما الظروف الضامنة في واقعنا، الآن، لإنضاج ثورة ثالثة مغيرة؟
لن نتحدث عن توقع رد فعلٍ، سيتراكم بعد ممارساتٍ للعسكر، وحده الله يعلم كم ستطول. سنترك ذلك التوقع الذي، وإن كان منطقياً، هو غير حتمي، وسنتحدث عن شيء يبدو أكثر حتمية وصلة بالتغيير. وعلينا أن نقول إنه لا يمكن الحديث، إذن، عن ثورة جديدة، من دون العودة إلى نقطة البدء الثورية، ورؤية أن الشعب، عندما قام بثورته، كان يفعلها على الاستبداد، لكنه كان يثور، أيضاً، على الأشكال والقوالب الأيديولوجية السابقة. وكان، بطبيعة الحال، يريد إبداعاً من القوى السياسية، في صهر وإذابة الفوارق بينها، وصولاً إلى مشروع وطني جامع.